بحـث
المواضيع الأخيرة
حادثة سيدة النجاة، جرحٌ عميقٌ لا يُنسى
صفحة 1 من اصل 1
حادثة سيدة النجاة، جرحٌ عميقٌ لا يُنسى
حادثة سيدة النجاة، جرحٌ عميقٌ لا يُنسى!
لمناسبة الذكرى الرابعة لمجزرة كنيسة سيدة النجاة، في 31 تشرين أول 2010
كلّما قربَ تاريخ تلك الحادثة المأساة، اشتدّ عندي البكاء على وطني الجريح، وأهلِه الطيبين بأصالتهم، والمظلومين بفعل الزمن الغادر الذي غيّبَ تلكَ الطيبة العراقية في أجزاءَ عديدة من مفاصلِها. فالمجزرة الرهيبة التي اقترفها نفرٌ ضالٌّ مغرَّرٌ بهم، أيًّا كانت انتماءاتُهم الدينية أو المذهبية أو العرقية، ستبقى حدّاً فاصلاً في مصير مكوّنٍ أصيلٍ مسالمٍ وفاعلٍ من نسيجِ الشعب العراقي وفي المنطقة، بفضل ما قدّمَه هذا المكوّن من تنمية وفكرٍ وبناءٍ في بناء الدولة العراقية ودول المنطقة عمومًا. ولا أخفي سرًّا، أن تلك الحادثة الأليمة، زادتني وتزيدني تعلّقًا بوطني وأرضي وأهلي وأصدقائي وأحبتي وكنيستي التي كنتُ أحد مشاريع الاستشهاد فيها مع ابني الصغير ومعنا مؤمنون آخرون، شاءت الأقدار أن تكتب لنا حياة جديدة في ذلك اليوم المؤلم، الأحد 31 تشرين أول 2010.
إنّه، وبسبب نظرتي وبقائي وإصراري على هذا الموقف، فإنّ البعض يلوموني. بل هناك مَن يصفني بصفاتٍ تحزُّ في نفسي، ومنها الرؤية القاصرة وقلّة العقل في العيش في بلدٍ تكادُ الأحداث تتحدث عن لسانِ أنّ ناسَه أو شرائحَ منه بدأت تضيق ذرعًا ببقائهم ووجودهم في أرض "سنعار"، بلد الحضارة والإيمان والتعايش سابقًا! وإنّي شخصيًّا في قرارة نفسي، لا أستطيع فهمَ طبيعة إصراري هذا بالتشبث في أرضِ الوطن. أحادثُ نفسي أحيانًا بالقول: ما هذا الهراء؟ أهو غشاءٌ مبطَّنٌ تكتحل به عيناي كِبَرًا وتيمّنًا وشموخًا وتهيُّبًا؟ أم هو الأمل والرجاء والتيقّنُ الباطن بإمكانية استعادة العراق لعافيتِه بعد أزمة أخلاق وسمومِ طائفيةٍ ومذهبيةٍ صدّرها أعداءُ العراق من أجل تفتيت نسيجِه الاجتماعي والاستمرار بنهب ثرواتِه بطرقٍ ووسائل مستنبطة شتّى بسبب قصر نظر الساسة الجدد والتشبّث كلٌّ بمصالحه الفئوية والشخصية والمذهبية والعرقية الضيقة؟ ولما لا هذا اليقينُ، والعراق، بلدُ الأصالة والحضارة والمساجد والمعابد والأديرة والكنائس العامرة بفعل وجود أجدادِنا من شعوب "السريان" بكافة طوائفهم وطقوسهم ومشاربهم الذين نقلوا للعالم شتّى أنواع العلوم والمعارف والثقافات عن شعوبٍ وحضاراتٍ أخرى، قبل قدوم الإسلام، وبعدَه أيضًا على عهود الدولة الإسلامية لغاية قدوم مدمّري الحضارات والثقافات بفعل تفكيرهم التكفيريّ العقيم والمتخلّف الذي لا يقبلُ وجودَ الآخر ولا يؤمنُ به خليقةً متساوية في الكرامة والحياة.
إنّه هذا اليقين منّي إذن، أنّ أرضَ العراق واسعة وطيبة وكثيرةُ الخيرات والنعم والبركات. أوَليسَتْ بلدَ إبراهيم الخليل، أبي المؤمنين، الذي نُديمُ جميعًا ذكراهُ ونفخرُ بعبادته للّه الواحد الأحد، الرحمن الرحيم، مالكِ يومِ الدّين، وما على الأرض من بشرٍ وحجرٍ وماءٍ وهواء عليل؟! وهل مِن منكرٍ أنّ أرض "سنعار" (العراق) لمْ تكنْ جنّةَ أحلام الكثيرين؟ ألمْ يزلْ مَن شاءَ وغادرَ أرضَه، يحنُّ إليه ويتغنّى به ويبكيهِ في الغربة، كَمَنْ فقدَ أكثرَ من عزيزٍ عليه؟ فمَن يفقدُ الوطن، كمَن فقدَ إحدى حواسِّه، فيدورُ ويجولُ ويصولُ كالأعمى، فلا يجدُ ذلك الوطن، مهما غاصَ في رفاهِ الاغتراب ورغدِ المهاجر وسعادة الأشياء! ألمْ يزل المغتربون يتغنّون ويبكون على هذه الكلمات:
"اللي مضيع ذهب بسوق الذهب يلقاه
واللي مضيعحبيب تمرّ سنة وينساه
بس الّلي مضيع وطن وين الوطن يلقاه"
اليوم، يؤلمني كثيرًا، أن تنتقل عدوى الهجرة إلى أصدقائي وأقاربي وأهلِ بيتي. فهلْ مِن ظلمٍ أكثر مِن أن تغيّبَ الأحداثُ المأساوية الأخيرة أحباءَ وأصدقاءَ وأقرباءَ لنا وسطَ تفرّج العالم والقوى العظمى التي سمحت بمثل هذه الأحداث، بل وقد خلقتْها وأوجدتْها لتحقيق مصالِحِها القومية على حساب الشعوب المقهورة، ثمّ عادتْ لتعالجّها وفق مصالحِها. والأنكى مِن ذلك، تصرّفُ اللاّعبين الكبار في السياسة العراقية، كلٌّ حسب مصالحِه هو الآخر. فالأكرادُ يسعون بلْ يعملون على "تكريدِ" المسيحيين وغيرِهم من الأقليات في سهل نينوى، بأيِّ ثمنٍ وبأيّة وسيلة كانت على حساب الحفاظ على طبيعة سماتنا المسيحية المتميّزة حتى لو حصل ذلك بشراء الذمم وإسكات الأصوات والكذب المتواتر. فيما الشيعة يخدّرونَنا بالكلام المعسول والحديث المدافع الذي لا يأتي بنتيجة فاعلة باتجاه تثبيت وجودِنا وتعزيز كيانِنا، طالما أنّ ميليشيات من أتباعِهم تصرُّ على محاربة أتباعِ المسيحيين في أرزاقهِم ومراكز تثقيفهم وترفيهِهم التي تعدّه هذه ضمن المنكرات وواجبةِ الإلغاء. أمّا السنّة، فهُم مرتاحون كما يبدو، لما يجري من أعمالِ عنفٍ وعملياتٍ تستهدفُ هذا المكوّن المسالم، فيما يشدّدُ أترابُهم الخناق عليهم جانبيًا من أجل حملِهم على تركِ قراهم ومساكنِهم ومناطقِ تواجدِهم بدعمٍ وتحفيزٍ خارجيّ. فمَنْ يتولى اليوم، التهجيرَ وأعمالَ السرقة والسلب والنهب في المناطق التي غادرها المسيحيون في سهل نينوى، همْ أبناء السنّة من المناطق المجاورة الذين غدروا بجيرانهم و "لم يغزّر الخبزُ والملحُ فيهم"، كما يقول المثل الشعبي.
مشروع استشهاد
في ذلك المساء من يوم الأحد الحزين، المصادف 31 تشرين أول 2010، كنتُ برفقة ابني الصغير نهمُّ بالذهاب إلى قدّاس الأحد المعتاد بعد تردّد، بسبب انشغالنا جميعًا، بتوضيب البيت استعدادًا للشتاء القادم على الأبواب. وبذلك، تعذّر على باقي العائلة القدوم معنا. كما أنّ تردّدي كان بسبب التزامي بالتواجد المبكر في دار السفارة الفرنسية استعدادًا لحفل استقبال كبير يُقام على شرف ضيوف دورة جديدة لمعرض بغداد الدولي بوجود وزيرة فرنسية وكبار المسؤولين في الدولة وأرباب الأعمال والشركات والضيوف. على أية حالٍ، هكذا كان قدَري! فقد غيّبني عن الحدث، أولئك الأشرارُ الذين اقتحموا كنيستي، سيدة النجاة، في الساعة الخامسة والثلث بالتمام والكمال. وكان ذلك خلال قراءة نصّ من الإنجيل على لسان القس الشهيد "ثائر"، طيّب الذكر، وكنتُ أنا أدير القدّاس، كعادتي.
في تلك الأثناء، كان جميعُ مَن في الكنيسة، مشاريعَ استشهاد في أية لحظة، بيد الإرهابيين الخمسة ومَن يؤازرهم. مرّت الدقائق الأولى الحرجة طويلة وكأنّها فيلمٌ هنديٌّ أو ما شابهَ ذلك. فقُتل مَن قُتل واحتمى مَن استطاعَ السبيلَ لذلك. وكنتُ أنا مِنْ بينِ أكثرَ مِنْ خمسينَ مصلّيًا احتمينا في الغرفة المجاورة "السكرستيّا"، بالرغم مِن هشاشة الباب الذي كان يفصلُنا عن أحدِ الإرهابيّين القابعين أمامَها. وإنّي لغاية اليوم، لا أفهمُ السرَّ الذي لمْ يدعْ ذلك الإرهابيّ مِنْ فتح النارِ علينا أو حتى منْ اقتحامِ تلك الغرفة البسيطة التي لمْ تكنْ عصيّةً عليه، بالرغم منْ أننا نلنا قدَرًا وافيًا من القنابل والرصاص. إنّها أيضًا يدُ القدَر، أو إنْ شئتَ أيضًا إرادةُ القدير، الذي أومنُ بتدابيرِه ومخطّطاتِه مِن دون نقاش!
سارَ الوقتُ بطيئًا. وحسبتُ الأربعَ ساعاتٍ التي أمضيناها بهولِها ورهبتِها، سواءً في حضنِ تلك الغرفة الصغيرة أو في صحنِ الكنيسة وجنباتِها لمَنْ بقي متشبثًا بحبل النجاة، وسطَ قرقعةِ الأسلحة وأصواتِ التفجيرات المتواصلة، مرّتْ وكأنَّها أيامًا بلياليها وحلكتِها وسَوداويّتها ونزفها المستمرَ، وسطَ بكاءِ وعويلِ وندامةِ ومختلفِ أنواعِ الأفكارِ المختلجة التي اتسمَ بها الحضورُ ذلك اليوم.
أحيانًا أقولُ، كنتُ محظوظًا لأنْ أشاركَ في آخر ذبيحةٍ أقامَها الشهيد "القس ثائر"، بشبابه اليافع وعفويّتِه المعتادة واندفاعِه لخدمة خورنتِه وأبناء منطقتِه والسائلين حاجةً من أبناء الكرّادة وما جاورَها. فقد كانَ رحمَه اللّه، محبوبًا ومعروفًا بتعاطفِه واستعدادِه لتقديم أوجه المساعدة دون تفرقةٍ بين مسيحيّ ومسلمٍ طيلةَ السنواتِ التي أمضاها في خورنة سيدة النجاة. كما أنّه كانَ مترفعًّا وعزيزَ النفسِ، لا يقبلُ ما يسيءُ إلى خدمتِه الكهنوتية ونزاهته المشهودة التي لم تكنْ تقبلُ النزعةَ المستشرية بشراءِ الذممِ والصمتِ التي كانتْ طاغية في بعضٍ من مسالك الحياة. ومثلُه، كان القس "وسيم"، بسيطًا ومحبًا للشباب، غيرَ حاسبٍ شخصَه سوى واحدٍ منهم. كانَ، مثلَ زميله "ثائر"، يحنو على الطفل في دروسِ التعليم المسيحي ويساعد هذا وذاك من أهل المنطقة. وهذه شهادةٌ شخصية للأب ثائر لا تُنسى، فقد كانَ يساعدُ السائلين حاجةً مِن جيبه الخاص أحيانًا، حينما كانت تضيقُ دارُ مطرانية السريان بالمالِ والمساعدات! لقد نالا الشهادة، وحُسب لهم ذلك بِرًّا، ودُعيا إلى وليمة الحمل السماويّ، بالطوبى التي وعدَ بها ربُّهم الفَعَلة النشطين بمتاجرتِهم بالوزنات التي نالوها يومَ تكريسِهم ذاتَهم لخدمةِ الكنيسة والشعب.
هكذا، نحنُ أيضًا، مَنْ كنّا شهودَ تلك الحادثة ووسطَ نيرانِها المحتدمة، كانَ يمكنُ أنْ نكونَ أيضًا مشاريعَ استشهاد مثل الكاهنين الغيورين والخمسةٌ والأربعين شهيدًا، الذين روتْ دماؤُهم أرضيةَ كنيسةِ سيدة النجاة. وبذلك أثبتوا أنّهم بذارُ الحياة ليكونوا قدوةً لغيرِهم وأداةً للشجاعة والعطاء وشعلةً للإيمان من أجل سيدهم المسيح، الذي سبق وأنْ أوصاهمْ "ألاّ يخافوا مِنَ الذي يقتلُ الجسدَ، بلْ مِنَ الذي يستطيعُ أنْ يقتلَ الروحَ والجسدَ معًا". فالروحُ باقيةُ، وأمّا الجسدُ، فهو زائلٌ، يذهبُ بسرعة الهباء! شهداءُ سيدة النجاة، ماتزالُ أسماؤُهم مثلَ ذكراهم، ماثلة في عقولِ وتفكير كلّ مَن يتذكّرُ تلك المأساة المؤلمة. وقد خلّدت الكنيسة أسماءَهم محفورةً على جنباتِ نوافذها كي تذكّر دومًا بهول المجزرة والنعمة التي حظيتْ بها هذه الكنيسة المتميّزة وسط العاصمة بغداد، والتي يؤمُّها إخوةٌ من المسلمين أيضًا، للصلاة والتبرّك والطلب من "مريمانة" أي مريم العذراء، سيدة النجاة، حاجاتِهم. وما أكثرَ مَن نالوا مرامَهم بحسب الشهادات والحقائق.
وبعد هذه الحادثة المؤلمة، ألا يجدرُ أن تُتوَّجَ هذه الكنيسة آيةً وتبقى محجَّا لكلّ العراقيّين، وليسَ للمسيحيّين وللسريان فحسب؟
كم كنتُ أتمنّى مثلَ غيري، أن تبقى آثارُ تلك الجريمة الشنيعة شاهدًا على قباحة تلك الفعلة الخسيسة، لتدينَ الأجيالُ من بعدنا، مَنْ قامَ بالتخطيط والتنفيذ لها، وكذا مَن عملَ على تسهيل المهمّة، ومِن ثمّ مَن مازالَ يخفي سرَّ السكوتِ عن مقترفيها الحقيقيّين والدافعين لمحوِ آثارِها والتغطية على الفاعل الحقيقيّ.
قصمُ الظهر، هلْ بدأَ بها!
حينَ أصبحَ العراقُ بعدَ احتلالِه في 2003، ساحةً مكشوفةً لكلِّ أعمالِ العنفِ التي أتى بها المحتلُّ الأمريكي وسواهُ منْ دول الجوار والإقليمي، اختلطتْ معهُ كلُّ الأوراق السياسية وسادت الفوضى، لاسيّما بعد استفحال آفة الطائفيّة التي أوصى بها وقدمَ مِن أجلها الطاغوت الأمريكي بتبريرِه الزائف لتحرير العراق. حينَها، فقدَ النسيجُ العراقيّ المعتادُ تماسكَه وأصبحَ الكلُّ عدوًّا للكلّ، بعد تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَّأ ونيل اللاّعيين الكبار المتمثل بالمثل السنّي-الشيعي-الكردي، كلٌّ مرامَه وحصّتَه من الكعكة. فالملياراتُ التي صُرفت ونُهبتْ مِن حيث لا يدري الشعب والدولة منذُ الاحتلال ولغاية اليوم، خيرُ دليلٍ على حالة الفلَتان والفوضى التي أرادَها المحتلّ الأمريكي وأعوانُه في الداخل والخارج كي تحصلَ من أجل تسهيل مهمة الفساد والسرقة عبر صفقاتٍ وأسماء وهمية في الإنفاق.
من هنا، لمْ تكن الحالةُ الأمنية بمعزلٍ عن كلّ هذا وذاك. فقدْ فُقِدَ الأمن والأمان، وغابَ الاطمئنان مِن عيون وعقول وخطواتِ المواطن بجميع مكوّناتِه وطوائِفِه وأديانِه. فقد هوجمتْ أو فُجّرتْ كنائس وجوامع ومعابد ومساجد ومراكز دينية واجتماعية وثقافية. والمسلسلُ لمْ ينتهي بعدُ، طالما توجدُ هناكَ ميليشيات وتنظيمات مسلّحة تعمل خارج المنظومة الأمنية للدولة. فهذه ما تزال تصولُ وتجولُ، وبسيارات تعود للدولة بعناوين أمنيّة حكوميّة أو تابعة لكتلٍ مشارِكةٍ في العملية السياسية بحجةِ الحفاظ على أخلاقياتِ الشعب، والشعبُ منهم بريء، وغيرُ راضٍ على ما تقترفُه هذه التشكيلات غير المنضبطة.
على أية حالٍ، لمْ يكن المكوّنُ المسيحيّ خارجًا عن هذه اللعبة، بلْ كانَ مثلَ غيرِه مستهدَفًا وعلى فوّهة المدفع. ولكونِه ممثِلاً لأقليّة حضاريةٍ وثقافية وتراثية وأخلاقيّة مختلفة عن الأغلبية، فقد بانَ الضررُ عليه أكثرَ مِن غيرِه، حالُه حالُ الإخوة من الطائفة الإيزيدية الذين نالوا قسطَهم منْ هذه الفوضى، ولاسيّما في الفترة الأخيرة. إلاّ أنَّ حادثةَ سيدة النجاة، كانتْ الأكثرَ هولاً ورهبةً مِنْ حيثُ الآثار التي خرجتْ بها الجماعةُ المسيحية في العراق. فقد قصمتْ تلكَ المجزرةُ ظهرَ الوجود المسيحيّ في هذا البلد المتعايشِ طيلة الحقب والأجيال والقرون المنصرمة، حينما طُردَ أبناءُ هذا المكوّن منْ مساكنهم واستولي على ممتلكاتِهم وأموالِهم واحتُسبتْ غنائمَ بحسب الايديولوجية التي يحملُها فراعينُ الإسلام المتشدّد بفعل تطبيقهم لمفهوم الشرع، والتي تستبيح قتلَ الأبرياءِ وسبيَ النساء وتهجيرَ العبادِ والاعتداء على كلِّ مختلفٍ عنهم ظلمًا وعدوانًا.
لقد سبق أنْ حصلتْ أعمالُ عنفٍ وتهجيرٍ واعتداءٍ وسلبٍ ونهبٍ في حقبٍ غابرة. ولكنّ هذه الحادثة كانت الأكثرَ عنفًا وتجريدًا للمسيحيّين مِنْ مواطنيّتهم وحقوقهم في المساواة والعدل، مِنْ حيثُ إنّ المخطّطين والفاعلين والمنفذين والحكّام، التقوا هذه المرّة، على هدفٍ مصيريٍّ واحدٍ، ينوي التهجير وقطعَ صلة الجذور لمكوّن أثبتَ ولاءَه للأرض والوطن أكثرَ مِن غيرِه. وهذا بشهادة الغريب قبل القريب! فالجلاّدُ والحاكمُ يبدوان واحدًا في هذه المرّة، ولا مجالَ للتملّص منْ هذا الهدف، مهما قيلَ ويُقالُ وأُذيعَ ويُذاعُ ويُصرّحُ به في المؤتمرات والإعلام. فالنية على التهجير تبدو معقودةً ولا رجعةَ فيها، تمامًا كما حصلَ مع اليهود. فلا مجالَ لدينٍ آخر غير الإسلام في المنطقة. هذا ما قيلَ وما نسمعُه وما يُخطّطُ له في الكواليس وعلى الملأّ. وإلاّ لما اقترفَ أمثالُ هؤلاء تلك الجريمة البشعة في واحدٍ من بيوتِ اللّهِ الذي يعبدونَه وينادون باسمِه خمسًا يوميًا، فيما كانَ المؤمنون، أبناءُ إبراهيمَ الموحِّد يصلّون مِن أجل العراق ومِن أجل استعادة عافيتِهِ. فهلْ مِن منطق آخرَ غيرَ ما نلمسُه؟ ف "مَن لهُ أذنانِ سامعتان، فليسمعْ"!
إنّ الجرحَ في العراق يزدادُ ثخنُه، والنزيفُ مستمرٌّ، ولاسيّما بعد احتلال الموصلَ الحدباءَ، وسقوطِ بلداتِ سهلِ نينوى، المسيحية منها أو التابعة لأقلياتٍ غيرها، بفعل تقاعسِ مَنْ كانَ يُحكمُ سيطرَتَهُ عليها منذ الاحتلال في 2003، وقد باعَها برخص التراب في أقلَّ من ساعتين! إنَّ ما فعلتُه "داعش" مؤخرًا باحتلالِها الموصل في 10 حزيران 2014، تجاوزَ حدودَ طغيانِ المغولِ على أيدي جنكيز خان وبعدَه حفيدُه هولاكو في 1258، ثمَّ تيمور لنك، حينما خيّروا المسيحيّين بين اعتناق الإسلام، أو الجزية أو الموت بالسيف أو المغادرة حفاةً. لقد كانَ صعبًا على مَن تجذّروا في الأرض وبنوا حضارةً وأسّسوا لثقافة متمدّنة وعُدّوا أصلاءَ في الأرض والوطن أن يتركوا كلَّ هذا وذاكَ بفعلِ قدومِ عصاباتٍ لا وطنَ لها، بلْ لمجرّد حملِها عقيدةًعقيمةً "مرفوضة" في الدّين الحنيف، تستبيحُ كلَّ ما هو مختلِفٌ عنْ عقيدتِها ودينِها وأخلاقِها. فالجريمةُ الشنعاء التي اقترفتها هذه الفئة الضالّة التي يتبرّأُ منها الإسلام المعتدل والقارئ الصحيح لكتاب القرآن بروح العصر، إنْ هي إلاّ ضدّ الإنسانية جمعاء. حتى إنّ مسألة إكراهِ الناس على هجر مساكنِهم وبلداتِهم وترك أموالِهم وممتلكاتهم لمجرّد الاختلاف في الدّين أو المذهب أو العرق، أمرٌ محرَّمٌ شرعًا!
إنّ ما تفعلُه هذه العصابات الإجرامية، قد استنكرهُ العديد من المراجع والشخصيات والمثقفين والواعين. فهذا الفعلُ الشنيعُ، لا ولنْ يقفَ في حدودِ المختلفين في الدّين مع "داعش" فحسب، بل "يستهدف العراق، كلَّ العراق، بجميع قومياته وأديانِه ومذاهبه، ولا يقفُ خطرُها وإجرامُها عندَ ديانةٍ أو طائفة أو قوميةٍ معينة. فلا يتوهمُ البعضُ أنهُ سيكونُ بمنأى مِن اعتداءاتها وتجاوزاتها"، تمامًا، كما قالَها الكربلائيّ، ممثل المرجعية الشيعية في خطبتِه ليوم الجمعة في 8 آب 2014.
... مذ ذاكَ، وتصريحاتُ الاستهجان والإدانة والتبرُّؤُ والخجلُ من فعالِ هذه العصابات الإجرامية ومثيلاتِها، فاقت الأسماعَ. لا لشيء، إنّما لأنّها تعكسُ حالة الإخفاق في عيشِ الإسلام بصفحتِه المتسامحة والمسالمة، لو عاد أمثالُ هؤلاء لقراءة النصوص بحكمةٍ ورويّةٍ ووفق تاريخها وصياغتِها وسياقِها الزمنيّ. فلا أعتقد أحدًا يقبلُ أنْ تكونَ عقيدتُه وديانتُه تتصفُ بالعنف وتخلو منَ الطيبة والتسامح والمحبة، محبة اللّه والآخر، الأخ في الإنسانية. يقول الإمام عليّ: "الإنسان إنْ لم يكنْ أخوك في الدينِ فهو أخوك في الخلقة". وهذا الشعار وحدَه كافٍ بضرورة العيش بين الناس كي يحيوا بأمانٍ واستقرارٍ واحترامٍ لبعضِهِم البعض بالرغم منْ كلّ الاختلافات التي أوجدّها الخالق لمصلحة البشر ومن أجل التنوّع الخلاّق لمدحِ اسمِه بلغاتٍ وطقوسٍ وآياتٍ متنوعة ومختلفة، بعيدًا عن أصولِ العنصرية والدعواتِ الطائفية التي تفرّق ولا تجمعُ الناسَ على كلمة الوحدة والتضامن والألفة وفق مبدأ "الدّين للّه والوطن للجميع".
رحِمَ الّلهُ شهداءَ كنيسةِ سيدة وجميَع شهداءِ العراقِ الأبرار، آملين تحوّلَ دمائهم الزكيّة لتكونَ بذارًا لحياةٍ أفضلَ لذويهم وبني جلداتهم ووطنهم الجريح. وعسى الوطنُ الجريحُ يستعيدُ عافيتَه ويعودُ له الأمنُ والأمانُ لتستقرَّ النفوسُ وترفلَ بحياةٍ أفضلَ تستحقُّها ويستحقُّها العراق، بلدُ الحضارات والأمجاد والإيمان!
لويس إقليمس
بغداد، في 28 تشرين أول 2014
لمناسبة الذكرى الرابعة لمجزرة كنيسة سيدة النجاة، في 31 تشرين أول 2010
كلّما قربَ تاريخ تلك الحادثة المأساة، اشتدّ عندي البكاء على وطني الجريح، وأهلِه الطيبين بأصالتهم، والمظلومين بفعل الزمن الغادر الذي غيّبَ تلكَ الطيبة العراقية في أجزاءَ عديدة من مفاصلِها. فالمجزرة الرهيبة التي اقترفها نفرٌ ضالٌّ مغرَّرٌ بهم، أيًّا كانت انتماءاتُهم الدينية أو المذهبية أو العرقية، ستبقى حدّاً فاصلاً في مصير مكوّنٍ أصيلٍ مسالمٍ وفاعلٍ من نسيجِ الشعب العراقي وفي المنطقة، بفضل ما قدّمَه هذا المكوّن من تنمية وفكرٍ وبناءٍ في بناء الدولة العراقية ودول المنطقة عمومًا. ولا أخفي سرًّا، أن تلك الحادثة الأليمة، زادتني وتزيدني تعلّقًا بوطني وأرضي وأهلي وأصدقائي وأحبتي وكنيستي التي كنتُ أحد مشاريع الاستشهاد فيها مع ابني الصغير ومعنا مؤمنون آخرون، شاءت الأقدار أن تكتب لنا حياة جديدة في ذلك اليوم المؤلم، الأحد 31 تشرين أول 2010.
إنّه، وبسبب نظرتي وبقائي وإصراري على هذا الموقف، فإنّ البعض يلوموني. بل هناك مَن يصفني بصفاتٍ تحزُّ في نفسي، ومنها الرؤية القاصرة وقلّة العقل في العيش في بلدٍ تكادُ الأحداث تتحدث عن لسانِ أنّ ناسَه أو شرائحَ منه بدأت تضيق ذرعًا ببقائهم ووجودهم في أرض "سنعار"، بلد الحضارة والإيمان والتعايش سابقًا! وإنّي شخصيًّا في قرارة نفسي، لا أستطيع فهمَ طبيعة إصراري هذا بالتشبث في أرضِ الوطن. أحادثُ نفسي أحيانًا بالقول: ما هذا الهراء؟ أهو غشاءٌ مبطَّنٌ تكتحل به عيناي كِبَرًا وتيمّنًا وشموخًا وتهيُّبًا؟ أم هو الأمل والرجاء والتيقّنُ الباطن بإمكانية استعادة العراق لعافيتِه بعد أزمة أخلاق وسمومِ طائفيةٍ ومذهبيةٍ صدّرها أعداءُ العراق من أجل تفتيت نسيجِه الاجتماعي والاستمرار بنهب ثرواتِه بطرقٍ ووسائل مستنبطة شتّى بسبب قصر نظر الساسة الجدد والتشبّث كلٌّ بمصالحه الفئوية والشخصية والمذهبية والعرقية الضيقة؟ ولما لا هذا اليقينُ، والعراق، بلدُ الأصالة والحضارة والمساجد والمعابد والأديرة والكنائس العامرة بفعل وجود أجدادِنا من شعوب "السريان" بكافة طوائفهم وطقوسهم ومشاربهم الذين نقلوا للعالم شتّى أنواع العلوم والمعارف والثقافات عن شعوبٍ وحضاراتٍ أخرى، قبل قدوم الإسلام، وبعدَه أيضًا على عهود الدولة الإسلامية لغاية قدوم مدمّري الحضارات والثقافات بفعل تفكيرهم التكفيريّ العقيم والمتخلّف الذي لا يقبلُ وجودَ الآخر ولا يؤمنُ به خليقةً متساوية في الكرامة والحياة.
إنّه هذا اليقين منّي إذن، أنّ أرضَ العراق واسعة وطيبة وكثيرةُ الخيرات والنعم والبركات. أوَليسَتْ بلدَ إبراهيم الخليل، أبي المؤمنين، الذي نُديمُ جميعًا ذكراهُ ونفخرُ بعبادته للّه الواحد الأحد، الرحمن الرحيم، مالكِ يومِ الدّين، وما على الأرض من بشرٍ وحجرٍ وماءٍ وهواء عليل؟! وهل مِن منكرٍ أنّ أرض "سنعار" (العراق) لمْ تكنْ جنّةَ أحلام الكثيرين؟ ألمْ يزلْ مَن شاءَ وغادرَ أرضَه، يحنُّ إليه ويتغنّى به ويبكيهِ في الغربة، كَمَنْ فقدَ أكثرَ من عزيزٍ عليه؟ فمَن يفقدُ الوطن، كمَن فقدَ إحدى حواسِّه، فيدورُ ويجولُ ويصولُ كالأعمى، فلا يجدُ ذلك الوطن، مهما غاصَ في رفاهِ الاغتراب ورغدِ المهاجر وسعادة الأشياء! ألمْ يزل المغتربون يتغنّون ويبكون على هذه الكلمات:
"اللي مضيع ذهب بسوق الذهب يلقاه
واللي مضيعحبيب تمرّ سنة وينساه
بس الّلي مضيع وطن وين الوطن يلقاه"
اليوم، يؤلمني كثيرًا، أن تنتقل عدوى الهجرة إلى أصدقائي وأقاربي وأهلِ بيتي. فهلْ مِن ظلمٍ أكثر مِن أن تغيّبَ الأحداثُ المأساوية الأخيرة أحباءَ وأصدقاءَ وأقرباءَ لنا وسطَ تفرّج العالم والقوى العظمى التي سمحت بمثل هذه الأحداث، بل وقد خلقتْها وأوجدتْها لتحقيق مصالِحِها القومية على حساب الشعوب المقهورة، ثمّ عادتْ لتعالجّها وفق مصالحِها. والأنكى مِن ذلك، تصرّفُ اللاّعبين الكبار في السياسة العراقية، كلٌّ حسب مصالحِه هو الآخر. فالأكرادُ يسعون بلْ يعملون على "تكريدِ" المسيحيين وغيرِهم من الأقليات في سهل نينوى، بأيِّ ثمنٍ وبأيّة وسيلة كانت على حساب الحفاظ على طبيعة سماتنا المسيحية المتميّزة حتى لو حصل ذلك بشراء الذمم وإسكات الأصوات والكذب المتواتر. فيما الشيعة يخدّرونَنا بالكلام المعسول والحديث المدافع الذي لا يأتي بنتيجة فاعلة باتجاه تثبيت وجودِنا وتعزيز كيانِنا، طالما أنّ ميليشيات من أتباعِهم تصرُّ على محاربة أتباعِ المسيحيين في أرزاقهِم ومراكز تثقيفهم وترفيهِهم التي تعدّه هذه ضمن المنكرات وواجبةِ الإلغاء. أمّا السنّة، فهُم مرتاحون كما يبدو، لما يجري من أعمالِ عنفٍ وعملياتٍ تستهدفُ هذا المكوّن المسالم، فيما يشدّدُ أترابُهم الخناق عليهم جانبيًا من أجل حملِهم على تركِ قراهم ومساكنِهم ومناطقِ تواجدِهم بدعمٍ وتحفيزٍ خارجيّ. فمَنْ يتولى اليوم، التهجيرَ وأعمالَ السرقة والسلب والنهب في المناطق التي غادرها المسيحيون في سهل نينوى، همْ أبناء السنّة من المناطق المجاورة الذين غدروا بجيرانهم و "لم يغزّر الخبزُ والملحُ فيهم"، كما يقول المثل الشعبي.
مشروع استشهاد
في ذلك المساء من يوم الأحد الحزين، المصادف 31 تشرين أول 2010، كنتُ برفقة ابني الصغير نهمُّ بالذهاب إلى قدّاس الأحد المعتاد بعد تردّد، بسبب انشغالنا جميعًا، بتوضيب البيت استعدادًا للشتاء القادم على الأبواب. وبذلك، تعذّر على باقي العائلة القدوم معنا. كما أنّ تردّدي كان بسبب التزامي بالتواجد المبكر في دار السفارة الفرنسية استعدادًا لحفل استقبال كبير يُقام على شرف ضيوف دورة جديدة لمعرض بغداد الدولي بوجود وزيرة فرنسية وكبار المسؤولين في الدولة وأرباب الأعمال والشركات والضيوف. على أية حالٍ، هكذا كان قدَري! فقد غيّبني عن الحدث، أولئك الأشرارُ الذين اقتحموا كنيستي، سيدة النجاة، في الساعة الخامسة والثلث بالتمام والكمال. وكان ذلك خلال قراءة نصّ من الإنجيل على لسان القس الشهيد "ثائر"، طيّب الذكر، وكنتُ أنا أدير القدّاس، كعادتي.
في تلك الأثناء، كان جميعُ مَن في الكنيسة، مشاريعَ استشهاد في أية لحظة، بيد الإرهابيين الخمسة ومَن يؤازرهم. مرّت الدقائق الأولى الحرجة طويلة وكأنّها فيلمٌ هنديٌّ أو ما شابهَ ذلك. فقُتل مَن قُتل واحتمى مَن استطاعَ السبيلَ لذلك. وكنتُ أنا مِنْ بينِ أكثرَ مِنْ خمسينَ مصلّيًا احتمينا في الغرفة المجاورة "السكرستيّا"، بالرغم مِن هشاشة الباب الذي كان يفصلُنا عن أحدِ الإرهابيّين القابعين أمامَها. وإنّي لغاية اليوم، لا أفهمُ السرَّ الذي لمْ يدعْ ذلك الإرهابيّ مِنْ فتح النارِ علينا أو حتى منْ اقتحامِ تلك الغرفة البسيطة التي لمْ تكنْ عصيّةً عليه، بالرغم منْ أننا نلنا قدَرًا وافيًا من القنابل والرصاص. إنّها أيضًا يدُ القدَر، أو إنْ شئتَ أيضًا إرادةُ القدير، الذي أومنُ بتدابيرِه ومخطّطاتِه مِن دون نقاش!
سارَ الوقتُ بطيئًا. وحسبتُ الأربعَ ساعاتٍ التي أمضيناها بهولِها ورهبتِها، سواءً في حضنِ تلك الغرفة الصغيرة أو في صحنِ الكنيسة وجنباتِها لمَنْ بقي متشبثًا بحبل النجاة، وسطَ قرقعةِ الأسلحة وأصواتِ التفجيرات المتواصلة، مرّتْ وكأنَّها أيامًا بلياليها وحلكتِها وسَوداويّتها ونزفها المستمرَ، وسطَ بكاءِ وعويلِ وندامةِ ومختلفِ أنواعِ الأفكارِ المختلجة التي اتسمَ بها الحضورُ ذلك اليوم.
أحيانًا أقولُ، كنتُ محظوظًا لأنْ أشاركَ في آخر ذبيحةٍ أقامَها الشهيد "القس ثائر"، بشبابه اليافع وعفويّتِه المعتادة واندفاعِه لخدمة خورنتِه وأبناء منطقتِه والسائلين حاجةً من أبناء الكرّادة وما جاورَها. فقد كانَ رحمَه اللّه، محبوبًا ومعروفًا بتعاطفِه واستعدادِه لتقديم أوجه المساعدة دون تفرقةٍ بين مسيحيّ ومسلمٍ طيلةَ السنواتِ التي أمضاها في خورنة سيدة النجاة. كما أنّه كانَ مترفعًّا وعزيزَ النفسِ، لا يقبلُ ما يسيءُ إلى خدمتِه الكهنوتية ونزاهته المشهودة التي لم تكنْ تقبلُ النزعةَ المستشرية بشراءِ الذممِ والصمتِ التي كانتْ طاغية في بعضٍ من مسالك الحياة. ومثلُه، كان القس "وسيم"، بسيطًا ومحبًا للشباب، غيرَ حاسبٍ شخصَه سوى واحدٍ منهم. كانَ، مثلَ زميله "ثائر"، يحنو على الطفل في دروسِ التعليم المسيحي ويساعد هذا وذاك من أهل المنطقة. وهذه شهادةٌ شخصية للأب ثائر لا تُنسى، فقد كانَ يساعدُ السائلين حاجةً مِن جيبه الخاص أحيانًا، حينما كانت تضيقُ دارُ مطرانية السريان بالمالِ والمساعدات! لقد نالا الشهادة، وحُسب لهم ذلك بِرًّا، ودُعيا إلى وليمة الحمل السماويّ، بالطوبى التي وعدَ بها ربُّهم الفَعَلة النشطين بمتاجرتِهم بالوزنات التي نالوها يومَ تكريسِهم ذاتَهم لخدمةِ الكنيسة والشعب.
هكذا، نحنُ أيضًا، مَنْ كنّا شهودَ تلك الحادثة ووسطَ نيرانِها المحتدمة، كانَ يمكنُ أنْ نكونَ أيضًا مشاريعَ استشهاد مثل الكاهنين الغيورين والخمسةٌ والأربعين شهيدًا، الذين روتْ دماؤُهم أرضيةَ كنيسةِ سيدة النجاة. وبذلك أثبتوا أنّهم بذارُ الحياة ليكونوا قدوةً لغيرِهم وأداةً للشجاعة والعطاء وشعلةً للإيمان من أجل سيدهم المسيح، الذي سبق وأنْ أوصاهمْ "ألاّ يخافوا مِنَ الذي يقتلُ الجسدَ، بلْ مِنَ الذي يستطيعُ أنْ يقتلَ الروحَ والجسدَ معًا". فالروحُ باقيةُ، وأمّا الجسدُ، فهو زائلٌ، يذهبُ بسرعة الهباء! شهداءُ سيدة النجاة، ماتزالُ أسماؤُهم مثلَ ذكراهم، ماثلة في عقولِ وتفكير كلّ مَن يتذكّرُ تلك المأساة المؤلمة. وقد خلّدت الكنيسة أسماءَهم محفورةً على جنباتِ نوافذها كي تذكّر دومًا بهول المجزرة والنعمة التي حظيتْ بها هذه الكنيسة المتميّزة وسط العاصمة بغداد، والتي يؤمُّها إخوةٌ من المسلمين أيضًا، للصلاة والتبرّك والطلب من "مريمانة" أي مريم العذراء، سيدة النجاة، حاجاتِهم. وما أكثرَ مَن نالوا مرامَهم بحسب الشهادات والحقائق.
وبعد هذه الحادثة المؤلمة، ألا يجدرُ أن تُتوَّجَ هذه الكنيسة آيةً وتبقى محجَّا لكلّ العراقيّين، وليسَ للمسيحيّين وللسريان فحسب؟
كم كنتُ أتمنّى مثلَ غيري، أن تبقى آثارُ تلك الجريمة الشنيعة شاهدًا على قباحة تلك الفعلة الخسيسة، لتدينَ الأجيالُ من بعدنا، مَنْ قامَ بالتخطيط والتنفيذ لها، وكذا مَن عملَ على تسهيل المهمّة، ومِن ثمّ مَن مازالَ يخفي سرَّ السكوتِ عن مقترفيها الحقيقيّين والدافعين لمحوِ آثارِها والتغطية على الفاعل الحقيقيّ.
قصمُ الظهر، هلْ بدأَ بها!
حينَ أصبحَ العراقُ بعدَ احتلالِه في 2003، ساحةً مكشوفةً لكلِّ أعمالِ العنفِ التي أتى بها المحتلُّ الأمريكي وسواهُ منْ دول الجوار والإقليمي، اختلطتْ معهُ كلُّ الأوراق السياسية وسادت الفوضى، لاسيّما بعد استفحال آفة الطائفيّة التي أوصى بها وقدمَ مِن أجلها الطاغوت الأمريكي بتبريرِه الزائف لتحرير العراق. حينَها، فقدَ النسيجُ العراقيّ المعتادُ تماسكَه وأصبحَ الكلُّ عدوًّا للكلّ، بعد تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَّأ ونيل اللاّعيين الكبار المتمثل بالمثل السنّي-الشيعي-الكردي، كلٌّ مرامَه وحصّتَه من الكعكة. فالملياراتُ التي صُرفت ونُهبتْ مِن حيث لا يدري الشعب والدولة منذُ الاحتلال ولغاية اليوم، خيرُ دليلٍ على حالة الفلَتان والفوضى التي أرادَها المحتلّ الأمريكي وأعوانُه في الداخل والخارج كي تحصلَ من أجل تسهيل مهمة الفساد والسرقة عبر صفقاتٍ وأسماء وهمية في الإنفاق.
من هنا، لمْ تكن الحالةُ الأمنية بمعزلٍ عن كلّ هذا وذاك. فقدْ فُقِدَ الأمن والأمان، وغابَ الاطمئنان مِن عيون وعقول وخطواتِ المواطن بجميع مكوّناتِه وطوائِفِه وأديانِه. فقد هوجمتْ أو فُجّرتْ كنائس وجوامع ومعابد ومساجد ومراكز دينية واجتماعية وثقافية. والمسلسلُ لمْ ينتهي بعدُ، طالما توجدُ هناكَ ميليشيات وتنظيمات مسلّحة تعمل خارج المنظومة الأمنية للدولة. فهذه ما تزال تصولُ وتجولُ، وبسيارات تعود للدولة بعناوين أمنيّة حكوميّة أو تابعة لكتلٍ مشارِكةٍ في العملية السياسية بحجةِ الحفاظ على أخلاقياتِ الشعب، والشعبُ منهم بريء، وغيرُ راضٍ على ما تقترفُه هذه التشكيلات غير المنضبطة.
على أية حالٍ، لمْ يكن المكوّنُ المسيحيّ خارجًا عن هذه اللعبة، بلْ كانَ مثلَ غيرِه مستهدَفًا وعلى فوّهة المدفع. ولكونِه ممثِلاً لأقليّة حضاريةٍ وثقافية وتراثية وأخلاقيّة مختلفة عن الأغلبية، فقد بانَ الضررُ عليه أكثرَ مِن غيرِه، حالُه حالُ الإخوة من الطائفة الإيزيدية الذين نالوا قسطَهم منْ هذه الفوضى، ولاسيّما في الفترة الأخيرة. إلاّ أنَّ حادثةَ سيدة النجاة، كانتْ الأكثرَ هولاً ورهبةً مِنْ حيثُ الآثار التي خرجتْ بها الجماعةُ المسيحية في العراق. فقد قصمتْ تلكَ المجزرةُ ظهرَ الوجود المسيحيّ في هذا البلد المتعايشِ طيلة الحقب والأجيال والقرون المنصرمة، حينما طُردَ أبناءُ هذا المكوّن منْ مساكنهم واستولي على ممتلكاتِهم وأموالِهم واحتُسبتْ غنائمَ بحسب الايديولوجية التي يحملُها فراعينُ الإسلام المتشدّد بفعل تطبيقهم لمفهوم الشرع، والتي تستبيح قتلَ الأبرياءِ وسبيَ النساء وتهجيرَ العبادِ والاعتداء على كلِّ مختلفٍ عنهم ظلمًا وعدوانًا.
لقد سبق أنْ حصلتْ أعمالُ عنفٍ وتهجيرٍ واعتداءٍ وسلبٍ ونهبٍ في حقبٍ غابرة. ولكنّ هذه الحادثة كانت الأكثرَ عنفًا وتجريدًا للمسيحيّين مِنْ مواطنيّتهم وحقوقهم في المساواة والعدل، مِنْ حيثُ إنّ المخطّطين والفاعلين والمنفذين والحكّام، التقوا هذه المرّة، على هدفٍ مصيريٍّ واحدٍ، ينوي التهجير وقطعَ صلة الجذور لمكوّن أثبتَ ولاءَه للأرض والوطن أكثرَ مِن غيرِه. وهذا بشهادة الغريب قبل القريب! فالجلاّدُ والحاكمُ يبدوان واحدًا في هذه المرّة، ولا مجالَ للتملّص منْ هذا الهدف، مهما قيلَ ويُقالُ وأُذيعَ ويُذاعُ ويُصرّحُ به في المؤتمرات والإعلام. فالنية على التهجير تبدو معقودةً ولا رجعةَ فيها، تمامًا كما حصلَ مع اليهود. فلا مجالَ لدينٍ آخر غير الإسلام في المنطقة. هذا ما قيلَ وما نسمعُه وما يُخطّطُ له في الكواليس وعلى الملأّ. وإلاّ لما اقترفَ أمثالُ هؤلاء تلك الجريمة البشعة في واحدٍ من بيوتِ اللّهِ الذي يعبدونَه وينادون باسمِه خمسًا يوميًا، فيما كانَ المؤمنون، أبناءُ إبراهيمَ الموحِّد يصلّون مِن أجل العراق ومِن أجل استعادة عافيتِهِ. فهلْ مِن منطق آخرَ غيرَ ما نلمسُه؟ ف "مَن لهُ أذنانِ سامعتان، فليسمعْ"!
إنّ الجرحَ في العراق يزدادُ ثخنُه، والنزيفُ مستمرٌّ، ولاسيّما بعد احتلال الموصلَ الحدباءَ، وسقوطِ بلداتِ سهلِ نينوى، المسيحية منها أو التابعة لأقلياتٍ غيرها، بفعل تقاعسِ مَنْ كانَ يُحكمُ سيطرَتَهُ عليها منذ الاحتلال في 2003، وقد باعَها برخص التراب في أقلَّ من ساعتين! إنَّ ما فعلتُه "داعش" مؤخرًا باحتلالِها الموصل في 10 حزيران 2014، تجاوزَ حدودَ طغيانِ المغولِ على أيدي جنكيز خان وبعدَه حفيدُه هولاكو في 1258، ثمَّ تيمور لنك، حينما خيّروا المسيحيّين بين اعتناق الإسلام، أو الجزية أو الموت بالسيف أو المغادرة حفاةً. لقد كانَ صعبًا على مَن تجذّروا في الأرض وبنوا حضارةً وأسّسوا لثقافة متمدّنة وعُدّوا أصلاءَ في الأرض والوطن أن يتركوا كلَّ هذا وذاكَ بفعلِ قدومِ عصاباتٍ لا وطنَ لها، بلْ لمجرّد حملِها عقيدةًعقيمةً "مرفوضة" في الدّين الحنيف، تستبيحُ كلَّ ما هو مختلِفٌ عنْ عقيدتِها ودينِها وأخلاقِها. فالجريمةُ الشنعاء التي اقترفتها هذه الفئة الضالّة التي يتبرّأُ منها الإسلام المعتدل والقارئ الصحيح لكتاب القرآن بروح العصر، إنْ هي إلاّ ضدّ الإنسانية جمعاء. حتى إنّ مسألة إكراهِ الناس على هجر مساكنِهم وبلداتِهم وترك أموالِهم وممتلكاتهم لمجرّد الاختلاف في الدّين أو المذهب أو العرق، أمرٌ محرَّمٌ شرعًا!
إنّ ما تفعلُه هذه العصابات الإجرامية، قد استنكرهُ العديد من المراجع والشخصيات والمثقفين والواعين. فهذا الفعلُ الشنيعُ، لا ولنْ يقفَ في حدودِ المختلفين في الدّين مع "داعش" فحسب، بل "يستهدف العراق، كلَّ العراق، بجميع قومياته وأديانِه ومذاهبه، ولا يقفُ خطرُها وإجرامُها عندَ ديانةٍ أو طائفة أو قوميةٍ معينة. فلا يتوهمُ البعضُ أنهُ سيكونُ بمنأى مِن اعتداءاتها وتجاوزاتها"، تمامًا، كما قالَها الكربلائيّ، ممثل المرجعية الشيعية في خطبتِه ليوم الجمعة في 8 آب 2014.
... مذ ذاكَ، وتصريحاتُ الاستهجان والإدانة والتبرُّؤُ والخجلُ من فعالِ هذه العصابات الإجرامية ومثيلاتِها، فاقت الأسماعَ. لا لشيء، إنّما لأنّها تعكسُ حالة الإخفاق في عيشِ الإسلام بصفحتِه المتسامحة والمسالمة، لو عاد أمثالُ هؤلاء لقراءة النصوص بحكمةٍ ورويّةٍ ووفق تاريخها وصياغتِها وسياقِها الزمنيّ. فلا أعتقد أحدًا يقبلُ أنْ تكونَ عقيدتُه وديانتُه تتصفُ بالعنف وتخلو منَ الطيبة والتسامح والمحبة، محبة اللّه والآخر، الأخ في الإنسانية. يقول الإمام عليّ: "الإنسان إنْ لم يكنْ أخوك في الدينِ فهو أخوك في الخلقة". وهذا الشعار وحدَه كافٍ بضرورة العيش بين الناس كي يحيوا بأمانٍ واستقرارٍ واحترامٍ لبعضِهِم البعض بالرغم منْ كلّ الاختلافات التي أوجدّها الخالق لمصلحة البشر ومن أجل التنوّع الخلاّق لمدحِ اسمِه بلغاتٍ وطقوسٍ وآياتٍ متنوعة ومختلفة، بعيدًا عن أصولِ العنصرية والدعواتِ الطائفية التي تفرّق ولا تجمعُ الناسَ على كلمة الوحدة والتضامن والألفة وفق مبدأ "الدّين للّه والوطن للجميع".
رحِمَ الّلهُ شهداءَ كنيسةِ سيدة وجميَع شهداءِ العراقِ الأبرار، آملين تحوّلَ دمائهم الزكيّة لتكونَ بذارًا لحياةٍ أفضلَ لذويهم وبني جلداتهم ووطنهم الجريح. وعسى الوطنُ الجريحُ يستعيدُ عافيتَه ويعودُ له الأمنُ والأمانُ لتستقرَّ النفوسُ وترفلَ بحياةٍ أفضلَ تستحقُّها ويستحقُّها العراق، بلدُ الحضارات والأمجاد والإيمان!
لويس إقليمس
بغداد، في 28 تشرين أول 2014
مواضيع مماثلة
» سيدة النجاة ... ماذا بعد
» قصيدة مجزرة كنيسة سيدة النجاة بقلم د. جبرائيل شيعا
» صلاة
» قصة إنتقال سيدة الطهر وشفيعة كل المؤمنين
» قصيدة مجزرة كنيسة سيدة النجاة بقلم د. جبرائيل شيعا
» صلاة
» قصة إنتقال سيدة الطهر وشفيعة كل المؤمنين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت فبراير 17, 2024 4:02 am من طرف Jo Hermiz
» رمش عيد ختان الرب 2022
الخميس فبراير 15, 2024 3:09 pm من طرف Jo Hermiz
» الجمعة الرابعة من السوبارا
الأربعاء فبراير 14, 2024 5:43 pm من طرف Jo Hermiz
» تشبوحتا
الخميس سبتمبر 01, 2022 3:32 pm من طرف Jo Hermiz
» شبح لالاها معشنان
الثلاثاء مايو 03, 2022 5:20 am من طرف Jo Hermiz
» تشبوحتا دمثأمرا بسهرة الحش يوم خميس الفصح بعد الانجيل
الجمعة أبريل 15, 2022 3:04 pm من طرف Jo Hermiz
» شليحا دعيذا قديشا دقيمتيه دمارن
الخميس أبريل 14, 2022 3:09 pm من طرف Jo Hermiz
» قريانا دعيذا قديشا دقيمتيه دمارن
الأربعاء أبريل 13, 2022 3:48 pm من طرف Jo Hermiz
» قولاسى دقوداشا تليثايا تسجيل جديد
الأربعاء أبريل 13, 2022 3:06 pm من طرف Jo Hermiz