بحـث
المواضيع الأخيرة
العادة ليست عبادة
النوفلي :: المواضيع الدينية :: عظات
صفحة 1 من اصل 1
العادة ليست عبادة
(مرقس 7: 1-13)
إنَّ الصُّوَرة الشَّائعة عن يسوع أنَّه لطيف هادئ، صورة غير كافية إطلاقاً، بل نستطيع أنْ نقول إنَّها صورة مُزيَّفة، لأنَّها ناقِصَة ومَبْتورة. فرُغم قلبه العامِر بالحنان والعَطْف واللطْف، إلا أنَّه لَمْ يتأخَّر مَرَّة في كَشْف الخطايا الشَّائعة، لاسيما خطية الرِّياء. لقد كان رَجُل حوار، وقد صوَّره الإنجيل في حوارٍ دائم مع تلاميذه ومُعاصريه. وأحد أهمّ الأمور التي شَغَلَتْهُ أيام تَجَسُّده، مُناقشة زعماء الدِّين اليهودي. انتقدوه كثيراً بالتجريح والتصريح والتلميح وإساءة فَهْمه وتحريف معنى كلامه، أما هو فقد نَقَدَ أفكارهم وأفْعالهم بكلِّ جُرْأة وصَرَاحَة، ولَمْ يتردَّد مَرَّة في الخروج على عاداتهم وتقاليدهم عند الضَّرورة، وتحذير الناس مِنْهُم.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>وأحد الموضوعات الأساسية التي كانت مَحَلّ خلاف بينه وبين الفرِّيسيين موضوع السُّلْطة. سألوه مرَّةً: "بأيِّ سُلطان تفعل هذا؟" (مرقس 28:11). وهو حال المسيحية اليوم، فرغم أنَّ جميع الكنائس تشترك في الكثير مِن المعتقدات وموضوعات الإيمان، إلا أنَّ هناك خِلافاً عميقاً حول السُّلْطَة. فبأيِّ سُلطان نؤمن بما نؤمن به، ونُعلِّم ما نُعلِّم به؟ بأيِّ سُلطان نَقْبَل بعض العقائد، ونَغُضّ النَّظَر عن البعض الآخَر؟ هل هي مسألة شخصية حتى يعتقد كلّ واحد بما يناسِبه؟ أمْ أنَّ هناك قاعِدة ومقياس موضوعي تُقاس بموجبه العقائد والسُّلوك؟ وهل هناك مَرْجِع أخير ذو سُلْطَة؟ إنَّ جميع الكنائس على اختلاف مذاهبها، تَنْسِب شيئاً مِن السُّلطة للكتاب المقدس. لكن، هل الكتاب المقدس هو مصدر السُّلطة الوحيد في الكنيسة؟ أمْ للكنيسة الحقّ بأنْ تُضيف سُلطة التقليد على سُلطة الكتاب؟ أمْ للأفراد أنْ يُضيفوا سُلطة العادات على سُلطة الكتاب؟ إنَّها أسئلة ساخِنَة، ومِن الواجب طرحها في مُناسَبَة مُناسِبَة كأحَد الإصلاح الإنجيلي.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4><FONT color=#0000ff size=5><STRONG>قضية التقليد:</STRONG></FONT><BR>كانت القضية الكُبرى بين المسيح والفريسيين هي التَّقليد، الذي تسلَّموه مِن الأجيال السَّابقة، واعتَبَروه بمَنْزلة الوصايا التي أعطاها الله لموسى، واعتادوه عليه وعلَّموه للناس على أنَّه ذو سُلطة إلهية. لقد تسلَّموا عادات وتقاليد كثيرة مِن آبائهم، لم تكُن مكتوبة في الأسفار المقدَّسة، ولم تكُن أكثر مِن مُحاولات تفسيرية وتطبيقية للوصايا المكتوبة، لكنَّها في مُعظمها كانت مُنْحَرِفة عن المقصود، حتى قال لهم المسيح: "مُبْطِلين كلامَ الله بتقليدكم الذي سلَّمتموه"، لأنَّهم اعتبروا كثيراً لسُلطة التقليد، مُضافةً إلى سُلطة الكلمة المكتوبة، وكان مُعظم ذلك التقليد مُناقِضاً للمكتوب. وهو الأمر الذي عاد وتكرَّر في المسيحية، حتى جاء عصر الإصلاح الإنجيلي.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>كان المسيح يرجِع دائماً للمكتوب، وقد عَابَ على الفرّيسيين أنَّهم أبطَلوا وصايا الله بتقاليدهم، كما عَابَ على الصدُّوقيين جَهْلَهم بالكتب المقدَّسة، ونَسَب ضلالهم إلى ذلك الجَهْل. أمَّا موضوع الحوار في (مرقس7) فكان غَسْل الأيدي قَبْل الأكل!! لَم تكُن مُشكلة نظافة صِحِيَّة، بل كانت مُشكلة طهارَة طقسيَّة. وهذا التقليد هو نموذج لتقاليد أخرى كثيرة مُشابِهَة، تمسَّكوا بها واعتبروها عبادة، وهي لم تكُن إلاَّ عادة. وفي حوار المسيح هنا نكتشف ثلاث حقائق هامة في هذا الشأن:</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4><STRONG><FONT color=#990000 size=6>(1) الكتاب إلهي، التقليد بشري:</FONT></STRONG><BR>قال الفريسيون إنَّه (تقليد الشيوخ. ع 5،3)، لكن يسوع أطلق عليه اسم (تقليد/ وصايا الناس. ع 8،7). لقد وضع يسوع حدَّاً فاصلاً واضحاً بين "موسى قال" (ع 9)، و"أنتُم تقولون" (ع11). فما قاله موسى هو كلام الله، وما يقولونه هو تقليد الناس وما اعتادوه من طقوس ومُمارسات. وكما ميَّز يسوع بين الاثنين، هكذا ينبغي علينا أن نميِّز. فنفرِّق بين تعاليم الكتاب المقدس/ وصايا الله، وتعاليم التقليد الكنسي/ وصايا الناس. ليس فقط من جهة مصدر كلٍّ منهما، بل من جهة السُّلطة في التعليم الإيماني والسلوك المسيحي.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4><STRONG><FONT color=#990000 size=6>(2) الكتاب إجباري، التقليد اختياري:<BR></FONT></STRONG>إنَّ الإيمان بأنَّ الكتاب المقدس كتابٌ إلَهي، وأنَّ التقليد كتابٌ بشَري، لا يعني أنْ نضرب بكلِّ ما جاء في التقليد عُرْضَ الحائط، شَرْط ألاَّ يُناقِض المكتوب. الأمر الذي عَجَزَ الفريسيون عن العمل به. لقد أخذوا تلك الوصايا البشرية وراحوا يُعلِّمونها كما لو أنَّها ذات سُلطة إلهية، وبذلك فَرَضوا على الناس ما لَمْ يُوْصِ الله به. لقد رفعوا التقليد إلى مركز السُّلطة، الذي يجب ألا يكون إلا لكلمة الله المكتوبة المُعلَنَة. فلَم يكُن مِن حقِّهم أنْ يضعوا التقليد في مستوى الوصايا الإلهية، ويجعلوه فَرْضاً وإلْزامَاً. إنَّ وصايا الناس لا يجوز أن تُعلَّم كتعاليم إلهية إلزامية.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>وفي الموضوع المطروح هنا بين المسيح والفريسيين، ليس هناك خطأ في غَسْل الأواني التي يُسْكَب مِنْها الطعام، أو غَسْل الأيدي قَبْل تناول الطعام، فهذا عمَلٌ صِحِّي مَمْدوحٌ. وهو مِن الناحية الطقسية ليس فيه ما يَنْفَع أو يَضُرّ، ولا هو مُناقِض للمكتوب. لكنَّ الفريسيين جعلوه أمراً طقسياً، فجعله الناس فَرْضاً وعبادة. هنا نُلاحِظ الخَلْط بين العادَة والعبادة، هذا الأمر عادة وليس عبادة، عادة صحيَّة طيِّبة، لكن لا شأن لها بعبادة الله والتقرُّب إليه. فما يَفْعَله البعض فَضْلاً مِنهم، لا يمكن اعتباره فَرْضاً على غيرهم.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>لقد نَبَّه يسوع على أنَّ العادات غير المُضِرَّة، والتي لا تُناقِض المكتوب، وليست مَطلوبَة فيه، يجِب اعتبارها أمراً اختيارياً لا إجبارياً، ومَن يؤديه، فهذا فَضْلٌ مِنْه لا فَرْضٌ عليه، فللإنسان الحرية الشخصية في هذا الشأن. لذلك لم يُبرِّر المسيح موقف تلاميذه، عندما أكلوا بأيدٍ غير مغسولة، ولم يوبِّخهم على خَرْقهم ذلك التقليد الطقسي الفريسي. إنَّ ما رفضه المسيح، ووبَّخ عليه الخدَّام والمخدومين، هو الإصرار على حِفْظ شعائر تقليدية، وفَرْضها كشيء مقدَّس وأساسي وإلزامي وضروري للمُتعبِّدين حتى يقبلهم الله.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>لذلك شدَّد المُصْلِحون في عَصر الإصلاح الدِّيني على كفاية الكتاب المقدس للخلاص. فكلّ ما ليس وارِداً فيه، ولا مُثَبَّتاً مِنه، ليس مُلزِماً لأحَدٍ كأنَّه بَنْدٌ مِن بنود الإيمان، وشَرْطٌ من شروط الخلاص. فالعادات والتقاليد التي لا ضَرَر مِنها، ولا تتعارَض مع ما يعلِّم به الكتاب المقدس، مسموح بها مِن باب الفَضْل وليس الفَرْض. وعلى الجانب الآخر، للكنيسة الحق في وضع طقوس أو مراسيم أو أنظمة إدارية أو قواعِد، لكن ليس لها أنْ تُقرِّر أمراً مُنافياً لكلمة الله المكتوبة وتَفْرِضه على المُتعبِّدين، فهي الشَّاهِدة والحافِظَة لكلمة الله المكتوبة.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>مثلاً تقليد رَسْم إشارة الصليب باليد على الجَبْهَة أو الجِسْم، أو تقليد تَسَلُّم العروس خاتماً مِن عريسها أثناء خدمة الزواج بالكنيسة، أو أن يُدْخَل بنعش الميِّت إلى الكنيسة في وضع معيَّن.. الخ. هذه العادات والتقاليد، وما يُشابهها، غير مُوصًى بها في الكتاب المقدس، وفي الوقت نفسه لا تتعارَض معه، إذاً فهي مِن الأمور المسموح بها، شَرْط ألا نُعْطيها سُلطة إلهية، ولا نَفْرِضها كأنَّها أمْر مِن المسيح، وكأنّ الله لا يَقْبَلنا إلا مِن خلالها. فكلّ مؤمن حُرّ في أنْ يمارسها أو لا يمارسها، على ألا يؤذي مشاعر غيره مِن المؤمنين بخلافه، أو عادات المكان المختلِف عنه إذا وُجِدَ فيه. لكنَّنا لَسْنا أحراراً في أنْ نُلزِم بها الآخرين.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4><STRONG><FONT color=#990000 size=6>(3) الكتاب أساسي، التقليد ثانوي:<BR></FONT></STRONG>إنَّ القول بأنَّ العادات والتقاليد التي لا تتعارض مع كلمة الله اختيارية، لا يَنْفي أنَّ هناك عادات وتقاليد يجِب نَبْذها بِشِدَّة، متى تعارَضَت مع الكتاب المقدس. إنَّ يسوع يُكرِّر هذا الأمر ثلاث مرَّات في حواره هنا، كي لا يدَع مجالاً للشكّ: "لأنَّكم تَرَكتُم وصية الله... حَسَناً رَفَضْتُم وصية الله... مُبْطِلين كلامَ الله". فهو يحذِّرنا مِن تَرْك، أو رَفْض، أو إبْطال كلام الله ووصاياه، في سبيل الحفاظ على التقليد والتمسُّك به. بل يوصينا بأنْ نترُك ونرفُض التقليد، إذا اقتضى الأمْر، في سبيل عدم تَرْك أو رَفْض أو إبطال وصية الله. فعندما يصطدم التقليد بالكتاب المقدس، يجب أنْ تُعطى الأولوية للكتاب المقدس على التقليد.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>إذاً فالمسيح يعلِّمنا: إذا لم يتعارض التقليد مع كلمة الله المكتوبة (مثل غسل الأيدي والآنية) فالأمر اختيارياً. أما إذا كان التقليد يتعارض مع الكتاب المقدس (مثل نَذْر القربان الذي أدَّى إلى عدم إكرام الوالدين) فيجب نبذ هذا التقليد بشدَّة، لأنَّ الكتاب المقدس أساسي، أما التقليد فثانوي. مثلاً تقليد رفع صلوات، مُباشِرَة أو تشفُّعِية، أو إنشاد ترانيم وتسابيح، أو إعطاء تقدِّمات عَيْنيَّة أو معنويَّة، لغير المسيح، هذه تقاليد تتناقَض بكلّ وضوح مع تعاليم المسيح ورُسُله. فالصلاة والتسبيح والتقدمات هي أشكال للعبادة التي لا يجوز تقديمها إلا للرب وحده. يقول المسيح: "للربّ إلهك تسجُد وإيَّاه وحده تعبُد" (متى 10:4). ويقول بولس: "يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (1تيمو 5:2). </FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>لقد أصبح الآن واضحاً أمامنا ما هو خطأ الفريسيين. صحيح أنَّهم لم يقصدوا تعدِّي كلمة الله، بل بالعكس، ادَّعوا أنَّ التقليد الشفوي حصنٌ واقٍ لكرامة التوراة. لكنَّهم في الواقع عبثوا وتعدَّوا على التوراة والناموس بتقليدهم. ومع الوقت، تركوا المكتوب واكتَفوا بمُمارسة تلك التقاليد.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>لقد قاوم يسوع هذا الاتجاه بشدَّة في مُناسبات كثيرة. وفي هذه المُناقَشَة شدَّد على هذه الحقائق الثلاث: لاهوت، وكفاية، وأفضلية الكتاب المقدس على التقليد. لقد كانت الكلمة المكتوبة هي المرجع الأساسي والأخير عنده في كلِّ مسألة وسؤال. فكان يسأل: "أما قرأتُم قط؟ ما هو مكتوبٌ في الناموس؟". فهذا المكتوب يجب أنْ يكون الحَكَم في كلِّ حوار ونقاش، وهو الذي يضع حدَّاً فاصِلاً في كلّ جدل. وهذا هو الأساس الذي قامت عليه حركة الإصلاح الإنجيلي. فنقطة الخلاف بين الكنيسة المُصلَحة والكنيسة التقليدية ليست في قبول سُلطة الكتاب المقدس، بل في كفايته للخلاص دون زيادات من خارجه.</FONT><FONT size=4></FONT></P><BR>القس أمير اسحق
إنَّ الصُّوَرة الشَّائعة عن يسوع أنَّه لطيف هادئ، صورة غير كافية إطلاقاً، بل نستطيع أنْ نقول إنَّها صورة مُزيَّفة، لأنَّها ناقِصَة ومَبْتورة. فرُغم قلبه العامِر بالحنان والعَطْف واللطْف، إلا أنَّه لَمْ يتأخَّر مَرَّة في كَشْف الخطايا الشَّائعة، لاسيما خطية الرِّياء. لقد كان رَجُل حوار، وقد صوَّره الإنجيل في حوارٍ دائم مع تلاميذه ومُعاصريه. وأحد أهمّ الأمور التي شَغَلَتْهُ أيام تَجَسُّده، مُناقشة زعماء الدِّين اليهودي. انتقدوه كثيراً بالتجريح والتصريح والتلميح وإساءة فَهْمه وتحريف معنى كلامه، أما هو فقد نَقَدَ أفكارهم وأفْعالهم بكلِّ جُرْأة وصَرَاحَة، ولَمْ يتردَّد مَرَّة في الخروج على عاداتهم وتقاليدهم عند الضَّرورة، وتحذير الناس مِنْهُم.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>وأحد الموضوعات الأساسية التي كانت مَحَلّ خلاف بينه وبين الفرِّيسيين موضوع السُّلْطة. سألوه مرَّةً: "بأيِّ سُلطان تفعل هذا؟" (مرقس 28:11). وهو حال المسيحية اليوم، فرغم أنَّ جميع الكنائس تشترك في الكثير مِن المعتقدات وموضوعات الإيمان، إلا أنَّ هناك خِلافاً عميقاً حول السُّلْطَة. فبأيِّ سُلطان نؤمن بما نؤمن به، ونُعلِّم ما نُعلِّم به؟ بأيِّ سُلطان نَقْبَل بعض العقائد، ونَغُضّ النَّظَر عن البعض الآخَر؟ هل هي مسألة شخصية حتى يعتقد كلّ واحد بما يناسِبه؟ أمْ أنَّ هناك قاعِدة ومقياس موضوعي تُقاس بموجبه العقائد والسُّلوك؟ وهل هناك مَرْجِع أخير ذو سُلْطَة؟ إنَّ جميع الكنائس على اختلاف مذاهبها، تَنْسِب شيئاً مِن السُّلطة للكتاب المقدس. لكن، هل الكتاب المقدس هو مصدر السُّلطة الوحيد في الكنيسة؟ أمْ للكنيسة الحقّ بأنْ تُضيف سُلطة التقليد على سُلطة الكتاب؟ أمْ للأفراد أنْ يُضيفوا سُلطة العادات على سُلطة الكتاب؟ إنَّها أسئلة ساخِنَة، ومِن الواجب طرحها في مُناسَبَة مُناسِبَة كأحَد الإصلاح الإنجيلي.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4><FONT color=#0000ff size=5><STRONG>قضية التقليد:</STRONG></FONT><BR>كانت القضية الكُبرى بين المسيح والفريسيين هي التَّقليد، الذي تسلَّموه مِن الأجيال السَّابقة، واعتَبَروه بمَنْزلة الوصايا التي أعطاها الله لموسى، واعتادوه عليه وعلَّموه للناس على أنَّه ذو سُلطة إلهية. لقد تسلَّموا عادات وتقاليد كثيرة مِن آبائهم، لم تكُن مكتوبة في الأسفار المقدَّسة، ولم تكُن أكثر مِن مُحاولات تفسيرية وتطبيقية للوصايا المكتوبة، لكنَّها في مُعظمها كانت مُنْحَرِفة عن المقصود، حتى قال لهم المسيح: "مُبْطِلين كلامَ الله بتقليدكم الذي سلَّمتموه"، لأنَّهم اعتبروا كثيراً لسُلطة التقليد، مُضافةً إلى سُلطة الكلمة المكتوبة، وكان مُعظم ذلك التقليد مُناقِضاً للمكتوب. وهو الأمر الذي عاد وتكرَّر في المسيحية، حتى جاء عصر الإصلاح الإنجيلي.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>كان المسيح يرجِع دائماً للمكتوب، وقد عَابَ على الفرّيسيين أنَّهم أبطَلوا وصايا الله بتقاليدهم، كما عَابَ على الصدُّوقيين جَهْلَهم بالكتب المقدَّسة، ونَسَب ضلالهم إلى ذلك الجَهْل. أمَّا موضوع الحوار في (مرقس7) فكان غَسْل الأيدي قَبْل الأكل!! لَم تكُن مُشكلة نظافة صِحِيَّة، بل كانت مُشكلة طهارَة طقسيَّة. وهذا التقليد هو نموذج لتقاليد أخرى كثيرة مُشابِهَة، تمسَّكوا بها واعتبروها عبادة، وهي لم تكُن إلاَّ عادة. وفي حوار المسيح هنا نكتشف ثلاث حقائق هامة في هذا الشأن:</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4><STRONG><FONT color=#990000 size=6>(1) الكتاب إلهي، التقليد بشري:</FONT></STRONG><BR>قال الفريسيون إنَّه (تقليد الشيوخ. ع 5،3)، لكن يسوع أطلق عليه اسم (تقليد/ وصايا الناس. ع 8،7). لقد وضع يسوع حدَّاً فاصلاً واضحاً بين "موسى قال" (ع 9)، و"أنتُم تقولون" (ع11). فما قاله موسى هو كلام الله، وما يقولونه هو تقليد الناس وما اعتادوه من طقوس ومُمارسات. وكما ميَّز يسوع بين الاثنين، هكذا ينبغي علينا أن نميِّز. فنفرِّق بين تعاليم الكتاب المقدس/ وصايا الله، وتعاليم التقليد الكنسي/ وصايا الناس. ليس فقط من جهة مصدر كلٍّ منهما، بل من جهة السُّلطة في التعليم الإيماني والسلوك المسيحي.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4><STRONG><FONT color=#990000 size=6>(2) الكتاب إجباري، التقليد اختياري:<BR></FONT></STRONG>إنَّ الإيمان بأنَّ الكتاب المقدس كتابٌ إلَهي، وأنَّ التقليد كتابٌ بشَري، لا يعني أنْ نضرب بكلِّ ما جاء في التقليد عُرْضَ الحائط، شَرْط ألاَّ يُناقِض المكتوب. الأمر الذي عَجَزَ الفريسيون عن العمل به. لقد أخذوا تلك الوصايا البشرية وراحوا يُعلِّمونها كما لو أنَّها ذات سُلطة إلهية، وبذلك فَرَضوا على الناس ما لَمْ يُوْصِ الله به. لقد رفعوا التقليد إلى مركز السُّلطة، الذي يجب ألا يكون إلا لكلمة الله المكتوبة المُعلَنَة. فلَم يكُن مِن حقِّهم أنْ يضعوا التقليد في مستوى الوصايا الإلهية، ويجعلوه فَرْضاً وإلْزامَاً. إنَّ وصايا الناس لا يجوز أن تُعلَّم كتعاليم إلهية إلزامية.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>وفي الموضوع المطروح هنا بين المسيح والفريسيين، ليس هناك خطأ في غَسْل الأواني التي يُسْكَب مِنْها الطعام، أو غَسْل الأيدي قَبْل تناول الطعام، فهذا عمَلٌ صِحِّي مَمْدوحٌ. وهو مِن الناحية الطقسية ليس فيه ما يَنْفَع أو يَضُرّ، ولا هو مُناقِض للمكتوب. لكنَّ الفريسيين جعلوه أمراً طقسياً، فجعله الناس فَرْضاً وعبادة. هنا نُلاحِظ الخَلْط بين العادَة والعبادة، هذا الأمر عادة وليس عبادة، عادة صحيَّة طيِّبة، لكن لا شأن لها بعبادة الله والتقرُّب إليه. فما يَفْعَله البعض فَضْلاً مِنهم، لا يمكن اعتباره فَرْضاً على غيرهم.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>لقد نَبَّه يسوع على أنَّ العادات غير المُضِرَّة، والتي لا تُناقِض المكتوب، وليست مَطلوبَة فيه، يجِب اعتبارها أمراً اختيارياً لا إجبارياً، ومَن يؤديه، فهذا فَضْلٌ مِنْه لا فَرْضٌ عليه، فللإنسان الحرية الشخصية في هذا الشأن. لذلك لم يُبرِّر المسيح موقف تلاميذه، عندما أكلوا بأيدٍ غير مغسولة، ولم يوبِّخهم على خَرْقهم ذلك التقليد الطقسي الفريسي. إنَّ ما رفضه المسيح، ووبَّخ عليه الخدَّام والمخدومين، هو الإصرار على حِفْظ شعائر تقليدية، وفَرْضها كشيء مقدَّس وأساسي وإلزامي وضروري للمُتعبِّدين حتى يقبلهم الله.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>لذلك شدَّد المُصْلِحون في عَصر الإصلاح الدِّيني على كفاية الكتاب المقدس للخلاص. فكلّ ما ليس وارِداً فيه، ولا مُثَبَّتاً مِنه، ليس مُلزِماً لأحَدٍ كأنَّه بَنْدٌ مِن بنود الإيمان، وشَرْطٌ من شروط الخلاص. فالعادات والتقاليد التي لا ضَرَر مِنها، ولا تتعارَض مع ما يعلِّم به الكتاب المقدس، مسموح بها مِن باب الفَضْل وليس الفَرْض. وعلى الجانب الآخر، للكنيسة الحق في وضع طقوس أو مراسيم أو أنظمة إدارية أو قواعِد، لكن ليس لها أنْ تُقرِّر أمراً مُنافياً لكلمة الله المكتوبة وتَفْرِضه على المُتعبِّدين، فهي الشَّاهِدة والحافِظَة لكلمة الله المكتوبة.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>مثلاً تقليد رَسْم إشارة الصليب باليد على الجَبْهَة أو الجِسْم، أو تقليد تَسَلُّم العروس خاتماً مِن عريسها أثناء خدمة الزواج بالكنيسة، أو أن يُدْخَل بنعش الميِّت إلى الكنيسة في وضع معيَّن.. الخ. هذه العادات والتقاليد، وما يُشابهها، غير مُوصًى بها في الكتاب المقدس، وفي الوقت نفسه لا تتعارَض معه، إذاً فهي مِن الأمور المسموح بها، شَرْط ألا نُعْطيها سُلطة إلهية، ولا نَفْرِضها كأنَّها أمْر مِن المسيح، وكأنّ الله لا يَقْبَلنا إلا مِن خلالها. فكلّ مؤمن حُرّ في أنْ يمارسها أو لا يمارسها، على ألا يؤذي مشاعر غيره مِن المؤمنين بخلافه، أو عادات المكان المختلِف عنه إذا وُجِدَ فيه. لكنَّنا لَسْنا أحراراً في أنْ نُلزِم بها الآخرين.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4><STRONG><FONT color=#990000 size=6>(3) الكتاب أساسي، التقليد ثانوي:<BR></FONT></STRONG>إنَّ القول بأنَّ العادات والتقاليد التي لا تتعارض مع كلمة الله اختيارية، لا يَنْفي أنَّ هناك عادات وتقاليد يجِب نَبْذها بِشِدَّة، متى تعارَضَت مع الكتاب المقدس. إنَّ يسوع يُكرِّر هذا الأمر ثلاث مرَّات في حواره هنا، كي لا يدَع مجالاً للشكّ: "لأنَّكم تَرَكتُم وصية الله... حَسَناً رَفَضْتُم وصية الله... مُبْطِلين كلامَ الله". فهو يحذِّرنا مِن تَرْك، أو رَفْض، أو إبْطال كلام الله ووصاياه، في سبيل الحفاظ على التقليد والتمسُّك به. بل يوصينا بأنْ نترُك ونرفُض التقليد، إذا اقتضى الأمْر، في سبيل عدم تَرْك أو رَفْض أو إبطال وصية الله. فعندما يصطدم التقليد بالكتاب المقدس، يجب أنْ تُعطى الأولوية للكتاب المقدس على التقليد.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>إذاً فالمسيح يعلِّمنا: إذا لم يتعارض التقليد مع كلمة الله المكتوبة (مثل غسل الأيدي والآنية) فالأمر اختيارياً. أما إذا كان التقليد يتعارض مع الكتاب المقدس (مثل نَذْر القربان الذي أدَّى إلى عدم إكرام الوالدين) فيجب نبذ هذا التقليد بشدَّة، لأنَّ الكتاب المقدس أساسي، أما التقليد فثانوي. مثلاً تقليد رفع صلوات، مُباشِرَة أو تشفُّعِية، أو إنشاد ترانيم وتسابيح، أو إعطاء تقدِّمات عَيْنيَّة أو معنويَّة، لغير المسيح، هذه تقاليد تتناقَض بكلّ وضوح مع تعاليم المسيح ورُسُله. فالصلاة والتسبيح والتقدمات هي أشكال للعبادة التي لا يجوز تقديمها إلا للرب وحده. يقول المسيح: "للربّ إلهك تسجُد وإيَّاه وحده تعبُد" (متى 10:4). ويقول بولس: "يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (1تيمو 5:2). </FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>لقد أصبح الآن واضحاً أمامنا ما هو خطأ الفريسيين. صحيح أنَّهم لم يقصدوا تعدِّي كلمة الله، بل بالعكس، ادَّعوا أنَّ التقليد الشفوي حصنٌ واقٍ لكرامة التوراة. لكنَّهم في الواقع عبثوا وتعدَّوا على التوراة والناموس بتقليدهم. ومع الوقت، تركوا المكتوب واكتَفوا بمُمارسة تلك التقاليد.</FONT></P>
<P align=right><FONT size=4>لقد قاوم يسوع هذا الاتجاه بشدَّة في مُناسبات كثيرة. وفي هذه المُناقَشَة شدَّد على هذه الحقائق الثلاث: لاهوت، وكفاية، وأفضلية الكتاب المقدس على التقليد. لقد كانت الكلمة المكتوبة هي المرجع الأساسي والأخير عنده في كلِّ مسألة وسؤال. فكان يسأل: "أما قرأتُم قط؟ ما هو مكتوبٌ في الناموس؟". فهذا المكتوب يجب أنْ يكون الحَكَم في كلِّ حوار ونقاش، وهو الذي يضع حدَّاً فاصِلاً في كلّ جدل. وهذا هو الأساس الذي قامت عليه حركة الإصلاح الإنجيلي. فنقطة الخلاف بين الكنيسة المُصلَحة والكنيسة التقليدية ليست في قبول سُلطة الكتاب المقدس، بل في كفايته للخلاص دون زيادات من خارجه.</FONT><FONT size=4></FONT></P><BR>القس أمير اسحق
طلال فؤاد حنوكة ايشوعي- عدد الرسائل : 1971
العمر : 63
تاريخ التسجيل : 31/03/2010
النوفلي :: المواضيع الدينية :: عظات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت فبراير 17, 2024 4:02 am من طرف Jo Hermiz
» رمش عيد ختان الرب 2022
الخميس فبراير 15, 2024 3:09 pm من طرف Jo Hermiz
» الجمعة الرابعة من السوبارا
الأربعاء فبراير 14, 2024 5:43 pm من طرف Jo Hermiz
» تشبوحتا
الخميس سبتمبر 01, 2022 3:32 pm من طرف Jo Hermiz
» شبح لالاها معشنان
الثلاثاء مايو 03, 2022 5:20 am من طرف Jo Hermiz
» تشبوحتا دمثأمرا بسهرة الحش يوم خميس الفصح بعد الانجيل
الجمعة أبريل 15, 2022 3:04 pm من طرف Jo Hermiz
» شليحا دعيذا قديشا دقيمتيه دمارن
الخميس أبريل 14, 2022 3:09 pm من طرف Jo Hermiz
» قريانا دعيذا قديشا دقيمتيه دمارن
الأربعاء أبريل 13, 2022 3:48 pm من طرف Jo Hermiz
» قولاسى دقوداشا تليثايا تسجيل جديد
الأربعاء أبريل 13, 2022 3:06 pm من طرف Jo Hermiz