بحـث
المواضيع الأخيرة
شعبنُا يرفض المذلّة:
صفحة 1 من اصل 1
شعبنُا يرفض المذلّة:
شعبنُا يرفض المذلّة: لن نقبلَ الشوارع ولا الخيام مآوي بديلة لمساكننا!
لويس إقليمس
تغّنينا ونتغنّى كثيرًا بالوطن، كما تغنّى ويتغنّى به أبناء جلدتنا في بلدان الاغتراب وهو يسوقون الحنين إلى صغائر الأمور وأطراف الذكريات، جميلةً كانت أم من ذوات الهموم. وما أكثر الهموم هذه الأيام! لكنّ المغنّي تنقطع حبالُه الصوتية ويتوقف لديه الغناء، يوم يلفظُه هذا الوطن بأيّ شكلٍ، بالرغم من غلاء وحلاوة الأخير في طيات قلبه المكسور. ولكنّ هذه الحلاوة، إذا ما انقلبت ويلاتٍ عليه وزرعت في نفسه آلامًا وحصدتْ من ثناياه مآسٍ، كما يحصل اليوم، فلن يعود من مخرجٍ ولا ملاذٍ آمنٍ فيه بعدُ. وهل من مآسٍ أقوى وكوارث أقسى وجرائم أقبح ممّا يعانيه عموم الشعب، والأقليات الدينية والإتنية فيه على وجه الخصوص، هذه الأيام؟
إذا كانت النائبة الإيزيدية فيان دخيل، قد أثارت حسّاسّية وزعل بعض من زملائها النواب تحت قبة البرلمان، وهي تقول كلمة الحق، حيث القتل والذبح والتهجير وما شاكلها من جرائم تحصل تحت "راية ألله أكبر"، فإنها بالمقابل، قد أبكت ملايين المشاهدين ورقّت لها دموع الثكالى وترجرجت بها دمعات الشرفاء، رجالاً ونساءً، وأنا واحدُه، إذ كلُّنا نتعاطفُ مع دموعها التي تحكي مأساة شعبٍ بائس. ولقد بلغني ذات الصوت المبكي والمحزن من زميلها، النائب السابق وصديقي من "شنكال"، وأنا أتواصل للاطمئنان عليه طيلة أيام هذه المعاناة. فقد جاء صوتُه المبحوح كالصاعقة أيضًا، وهو يبكي ويتحسّر ويتأفّف للخذلان الذي صعقه هو الآخر، عندما تخلّت قوات البيشمركة عن مناطقهم في ساعة سوداء، فوقعوا ضحايا بين أنياب العصابات القاتلة، التي قتلت وهدّدت وذبحت، كما اغتصبت نساءَهم واقتادت فتياتهم وحرائرَهم ليُبعن في سوق نخاسة بدعوى بدعة "نكاح الجهاد". لقد أبكاني هذا الرجل الأمين لشعبه والوفيّ لجماعته وهو الذي أضنى ذاتَه وهو يدافع عن مكوّنه تحت خيمة "البارتيّ الكردستانيّ"، وإن يكنْ! كنتُ أنصتُ له على الهاتف وهو يستغيث بقشة نملة شاكيًا الحال المرير لأبناء منطقته وما آل إليه الآلاف منهم وهم يصارعون الموت من القيظ الّلافح وانعدام الماء والطعام في طيّات جبل سنجار ومغائره ووديانه تحت رحمة السماء وضربات المسلّحين قساة الرقاب وتهديداتهم الّلاإنسانية.
وللحق، تألمتُ كثيرًا أيضًا، وأنا أتابع أحوال صديقي "التركمانيّ صبري" في تلعفر منذ اجتياح مسلّحي داعش لمدينتهم بعد انهيار الموصل وتخاذل فرقها العسكرية والأمنية الثلاث التي انهزمت مكسورة مهانة مِن أمام عدة مئات من عصابات تحمل الأعلامَ السود مدجَّجةً بإعلامِ الترهيب والوعيد والتهديد سلاحًا فتّاكًا، تمكنت بواسطته القضاء على جحافل عراقية جرّارة، يُحسبُ لها حساب في المنظور العسكري والسّوقيّ والتعبويّ.
وها هو صديقيّ الآخر "الشبكي سعد"، وهو يروي مشاركة عناصر من أبناء جلدته في الأعمال الوحشية التي ترتكبها "داعش" في قراهم المجاورة للموصل والقرارات التي تصدرها المحكمة الشرعية التي أنشأها هذا التنظيم في قريته للانتقام مِن كلّ مَن لا يبايع الخليفة المستحدث.
أيَّ عصر يعيشه العالم الإسلاميّ اليوم؟ هل هو عصر التقهقر والانهيار الخلقيّ والدينيّ والاجتماعيّ بأيدي أدعياء دينٍ جديد، استوحوه مِن جبال أفغانستان وثنايا الشيشان ودهايز باكستان وكهوف تركستان مرورًا بأودية إيران وتعرّجات كردستان وتبريكًا من فيافي جزيرة العرب "الّلاعرب"، البعيدين عن عروبة حاتم الطائي والأعشى وقسّ بن ساعدة وأبي نؤاس والمتنبيّ وأبي تمّام وبني العباد وتميم وتغلب وما سواهم؟ ما للعراقيين اليوم، وقد غابَ عنهم الحسّ الوطنيّ وأغشاهم التقاتل الإتنيّ واستقوى بهم القياس المذهبيّ واستعَرَ عندهم الهوس الطائفيّ بعد أن أصبحَ همَّهم الأوحد، ولا شيءَ آخرَ سواه؟ أيُعقل أن ينهزم جيشٌ دولة أمام شرذمة لا تتجاوز بضعة آلافٍ ويستسلم بكلّ ما يملكُه من عدّة وعتاد، خفيف ومتوسط وثقيل، في غضون بضعة ساعات، لمجرّد السماع بقدوم طلائع "داعش" على أبواب مدينة عظيمة مثل نينوى؟
ويأتي السؤال ملحاحًا: هل سنواصل الغناء والتغنّي بالوطن بعد كلّ هذا الذي عشناه وذقناه وشهدناهُ؟ أمْ سنسلكُ الطريق الأسهل ونلتحق بمَن سبقَنا مهاجرين إلى بلدان الاغتراب التي خطّطت ونفّذت جريمة تفريغ بلدنا من كلّ ما هو مختلف عن رؤية الأسياد وبرامجهم؟ إنها لمعدلةٌ صعبة حين اتخاذ القرار. ولكنْ، إنْ كان لا مفرَّ منه، فليكنْ. فالإنسانُ وُلدَ حرًّا كي يقرّر ما ينفع حياَته وما يستوي به مستقبلُه ويرتاح له مصيرُه. فالظروف هي التي تحكمُ وتتحكّمً أحيانًا بصمير ومستقبل الإنسان، بالرغم من بقاء الوطن وذكرياته في حدقات الأعين وطيّات القلوب وثنايا النفوس الحانية.
سخرية القدر!
عندما استبيحت مناطق الأقليات التي تمسكّت بها حكومة الإقليم بأسنانها وأدواتها وسطوتها منذ 2003، وتقهقرت عنها بين ليلةٍ وضحاها، صدقَ البسطاء ما أُشيع عن كون ذلك التحرّك مجرّد تكتيك حربيّ، سرعان ما تستعيد قوات البيشمركة المبادرة وتطرد الدواعش ومَن يلفُّ لفَّهم. كما سبق هذه الحركة، مفاوضات ونقاشات ولقاءات بين ممثلي شعب هذه المناطق وقيادات كردية، وعلى رأسها فخامة رئيس الإقليم الذي صرّحَ مرارًا وتكرارًا، "نعيشُ أو نموتُ معًا"، فيما وعدَ النازحين من الموصل بزيارتهم بُعَيد أيامٍ على مغادرتهم مدينتهم منكوسي الرأس وبائسين! وأسفي على الوعود الكثيرة التي استقاها ممثلو هذه المناطق، من مسيسحيين وإيزيديين وشبك وكاكائيّين وصابئة وآخرين، من لدن قيادة الإقليم، التي لم تبرّ بما وعدت، بل تخلّت عن ساكنيها ومناطقهم، وهي التي ادّعت ملكيتَها منذ السقوط حينما عدّتها مناطق متنازَع عليها وضمن أراضيها بغير وجه حقّ. وهي بتلك الفرية التي اُقحمت في بنود الدستور الأعرج، كانت حقًا قنابل موقوتة، وقد آن وقت انفجارها حينما انكشفت حقائق كثيرة وصفقات ومساومات كانت تجري من خلف الكواليس بحق هذه المناطق وساكنيها. وبذلك تكون حكومة الإقليم بسيطرتها على تلك المناطق منذ السقوط، قد حرمتهم من حماية الدولة الفدراليّة التي تنازلت عنها هي الأخرى مرحليًا لصالح الإقليم. والسبب واضح يعود في مجمله إلى ضعف الحكومة المركزية وعدم اهتمامها بتلك المناطق، لا لشيء إلاّ لكون أبناء هذه المناطق من مسمّيات أخرى وفصائل مختلفة، وهي بالتالي بعيدة عن اهتمامات نهجها عبر مسيرتها التي استمرّت ثماني سنوات عجاف بلياليها ونهاراتها المؤلمة المليئة بالأزمات المتلاحقة والمشاكل المفتعَلة المائلة جميعًا لخلق دولة طائفية وليس دولة المواطنة.
عندما سخر إقليم كردستان من أشكال التصرّف التخاذليّ الذي ظهرَ عليه الجيش الاتحاديّ، أعطيناهم الحق، ظنًّا منّا أنّ ما ستحقّقُه قوات البيشمركة "المحترفة"، سيكسر شوكة المهاجمين عندما يتخّذ المبادرة ويتولّى الدفاعَ عن أراضي الوطن جميعها، لكونِه جزءًا منها وما يصيبُ عموم أراضي الوطن يصيبُه هو أيضًا. دارت الأيام وتوالت اللّيالي سوداوية قاتمة والتنظيم المسلّح يتقدّم بخطى واثقة "يمشي ملَكًا" ويتسع ويتوسع على حساب الحكومتين الفيدرالية والإقليم، حتى بات يهدّد الأخير هذه الأيام. ويتساءل الناس: أينَ وعود رئيس الأقليم التي تبخرت أسرَع من الغيوم الخفيفة، على ثقلِها وقتامتِها وسوداويتها؟ أيُعقل أن يتراجع جيش البيشمركة والزريفاني وتشكيلات أمنية وعسكرية مساندة غيرُها بهذه السرعة وتترك مواقعَها التي احتلّتها منذ 2003 والتي من أجلها عاندت وأصرّت وتكابرت طيلة هذه السنين العجاف؟
في حينها، تابعت وسائل التواصل الاجتماعيّ والأوساط الشعبية وعود فخامة رئيس الإقليم وعدّتها وثيقة شرف يمكن الاعتماد عليها، لكونها صادرة من أعلى قمّة في هرم السلطة بالإقليم. ولكن سرعان ما تهاوت معاني هذه الكلمات وفقدت مصداقيَتها عندما خذلتها قوات البيشمركة المتواجدة على حدود جميع المناطق المتنازَع عليها التي تسكنها أقليات إيزيدية ومسيحية وشبكية على وجه الخصوص، بدءًا من أقضية الحمدانية وتلكيف والشيخان وسنجار ومناطق ربيعة وزمّار ووانة وسنوني والسدّ وبادوش حتى فيشخابور على الحدود السورية. بل إنّ الزيارة التي وعد فخامة رئيس الإقليم لأهالي الموصل النازحين بعد لقائه إياهم، لم تُنجز أو تتحقّق. وعوضًا عن ذلك، خسر الإقليم ما احتفظ به من أراضٍ وبلداتٍ طيلة تلك السنوات العجاف، وأصبح قابَ قوسين أو أدنى من سقوط محافظاته الثلاث بفعل الضربات الموجعة والتقدّم الجارف لمسلّحي داعش سريعي الحركة والبطش. ولولا الالتفاتة الدولية لحلفاء كردستان وتحرّكهم في الوقت الضائع المتاح، لكانت أجزاء من أراضي الإقليم قد سقطت بأيدي هؤلاء البرابرة، بعد وصولهم منطقة الخازر واحتلالهم مخمور وبلدات غيرها الواحدة تلو الأخرى. لكنّ الوضع ما زالَ حرجًا. فنحن نقرأ الأحداث أحيانًا من حركة الشركات الأجنبية العاملة والسلك الدبلوماسيّ المعتمَد وحركة المطارات عمومًا. وهذه كلُّها لا تنبئ بخير قريبٍ، في الأقلّ في القريب العاجل.
إن الوضع المنهار لقوات البيشمركة بعد الجيش الفيدرالي، لهو دليلٌ قاطع على توجّه الوطن نحو شفير الهاوية، إن لم يكن قد فقد سرَّ قوته المعنوية بعدُ. وها هو اليوم، يقف على عتبة مفترق طرق: إمّا أن تقوم له قائمة من جديد إن أُنعمَ بحكومة ذات توجهات وطنية نزيهة وصادقة بعيدة عن كلّ أشكال الطائفية والتخندق الفئويّ الضيّق، أو يسقط ويتهاوى كلُّ شيء فيه بانتظار مصير محتومٍ لا ولم يستحقّه إلاّ بفعل الأغراب عنه من الذين نزعوا لباس الوطنية واتشحوا ببردعة طائفية ومذهبية وشخصية، عوض وشاح الوطنية والمواطنة.
لقد فقد قادة الإقليم مصداقيتَهم أيضًا، كما القادة السياسيون في البلد. فلا الوعود التي قطعوها أوفوا بها، ولا تمكنوا من صدّ هجمات التتار الجدد ولا حرصوا على حسن إيواء النازحين الذين مازالوا يفترشون الأرض وينتشرون في الساحات والشوارع تائهين وهائمين على وجوههم وسط استجابة محصورة وضيّقة بتقديم وجبات خفيفة ومواد غير ذات قيمة تُحسب عليهم وليمةً كبرى ومنّةً فضلى. إنّ ما يعانيه مواطنونا من رعاية دنيا ونظرة ازراء بتواجدهم في مدن وبلدات كردستان، ومنها مدينة عنكاوا المسيحية بالذات، لهو عارٌ على جبين المسؤولين والأدوات القائمين في هيئات شؤون الأقليات من المتبجّحين على رعاية المشرّدين والنازحين من بلدات معروفة بكرمها وأنفتها وتراثها مثل قرقوش وكرمليس وبرطلة وتلكيف وبعشيقة وبحزاني وتلكيف وباطنايا وتللسقف وباقوفا وأخرى غيرُها. وكذا الحال ينطبق على القرى والقصبات العائدة لمكوّنات من غير المسيحيين.
إنّ العجز بإيجاد مأوى لائق لهذه العوائل المشرّدة وترك العديد منها في العراء تحت لفحة حرارة الصيف القاسية، لهو علامةٌ على لا مبالاة القيادات القائمة أو تهاون أدواتهم ومَن يُفترض بهم من القيادات الدعية الذين كانوا اوّلَ مَن أسكنوا عوائلَهم في فللٍ وقصور ومآوي آمنة، في حين تركوا المتعَبين ومَن لا معارف لهم يفترشون الشوارع وفي العراء أو محشورين داخل باحات الكنائس والمدارس والساحات المكشوفة. إن المشاهد التي تنشرها وتعرضها قنواتٌ فضائة مهمة، مثل قناة عشتار، لهي دليلٌ ساطع على مدى الإهمال الذي يلاقيه النازحون. وهذا ما لا يليق بشعبٍ ذي حضارة ولا نقبله نحن المسيحيين الأباة، ولاسيّما في قرقوش التي سبق أن فتحت أبوابَها زمنَ حرب الشمال في الخمسينات والستينات وحتى أخيرًا بعد الأحداث في 2003 ولغاية سقوطها في 6 آب الجاري. شعبُنا وأهلُنا لا يستحقون مثل هذه المعاناة البائسة، ولا نقبل أن يعيشوا في بلا كرامة ولا خدمات في خيم أو في العراء، ولا مِن مبالٍ!
لقد سجّلَ العديد من النازحين الذين قصدوا بلدة عنكاوا "المسيحية" ملاحظات مؤسفة وتصرّفات محزنة بل مخجلة لا تليق بالمسيحيين، من الذين استغلوا حاجة الناس إلى مأوى، فطلبوا إيجارات خيالية وآخرون رفعوا الإيجارات السابقة دون وجه حق. أقولها وبكلّ أسف، لم يعد حتى في أوساطنا مَن يهتمّ للأخلاق التي تربينا علينا وعلّمنا إياها الإنجيل. أنقل لكم حادثتين من هذا القبيل.
في الحادثة الأولى حين قصفِ قرقوش بالهاونات ومغادرة الأهالي باتجاه عنكاوا، اتجّهت عائلة أحد الشباب الذي كان لتوّه قد أجّرَ شقّةً مفروشة بألف دولار شهريًا. ولكن ما أن رأت صاحبة الشقة (وهي طبيبة ولها إقامة كندية) مجموعة النازحين والفارّين من نيران الظالمين يدخلون الشقّة، اعترضت وامتعضت بحجة أنّ الداخلين "أناسٌ شعبيّون"، ومن ثمَّ لا يليق بمقامها أن ترى أمثالَهم في مُلكها، وهي أساسًا طبيبة نازحة من الموصل آوتها عنكاوا واشترت ملكًا فيها.
والحادثة الثانية، فيها رفعت صاحبة ملكٍ إيجارَ شقّة صغيرة بغرفة واحدة وحمّام وهول صغير من 500 دولار إلى 750 دولارًا لأسرة مكوّنة من شابين متزوّجين حديثًا.
وهناك أمثلةٌ غيرُها سمعنا ونسمع بها. ولكنّي اقتصرتُ في روايتي على ما شهدتُه شخصيًّا أمام ناظريَّ. وليسمع مَن له أذنان سامعتان. ومَن يأبى، فليذهب إلى الجحيم، فهو بفعلتِه شريكٌ في التشريد والجريمة ولا يسمع قول الربّ الواضح: "طوبى للرحماء، فإنّهم يُرحمون". ولنتذكّر فقط ما قام به السامريّ الطيّب، حين داوى جراحَ اليهوديّ وطلبَ من صاحب النزل أن يأويه ويقدّم له الطعام والشفاء على نفقتِه. إنها مجرّد مقارنة بما يحصل اليوم، واللبيب من الإشارة يفهم!
في ذات الوقت، تجدر الإشارة بشيء من الامتنان والتقدير لما تقوم جهات كنسية وخدمية وشباببة من متطوعين في هذه البلدة من أجل إزاحة جزءٍ من هموم النازحين وبلسمة جراحهم وآلامهم. فشعبُنا لا يستحق مثل هذه المهانة التي يلقاها من طرف بعض المستغلّين والمتاجرين بهمومهم ومآسيهم.
أمل ورجاء جديدان
ما نحنُ عليه اليوم، حقيقة واقعة. ألم ومأساة لجماعات يُراد اجتثاثُها من جذورها وقلعها من أصولِها وعن بكرة أبيها ضمن مخطَّط شيطانيّ تقوده وترعاه دول شرسة وسافرة برعاية أمريكية - صهيونية - إسلامية. وما تتناقلُه بعض وسائل التواصل الاجتماعيّ والأخبار التي تترشّح هنا وهناك من تأمين اتصالات مع خليفة المسلمين الدعيّ، أبو بكر البغدادي، ولقاءاته في أوقات سابقة مع شخوصٍ بالإدارة الأمريكية وعناصر من الموساد وشخصيات إخوانية وأخرى متشدّدة داخلة على ذات الخط، كلّها دلائل على تنفيذ مخطَّط إفراغ العراق والشرق الأوسط من المسيحيّين. كما أنّ رفض الإدارة الأمريكية، و"أوباما حسين" بالذات، بالتدخل السريع لمقارعة "داعش" ووقف توسّعها، والتريث ومراقبة الأوضاع لما ستؤول إليه في العراق، هي الأخرى من سمات هذا المخطّط الشيطاني الدوليّ. وإذا حصل تنديد واستنكار علنًا هنا وهناك، فقد حصل على خجل ولرفع العتب بسبب ضغوطات المجتمع الدولي والدول التي ما تزال فيها ذرّة من الأخلاق، في شعبها وليس في حكوماتها غير المبالية.
أمّا النواب في العراق، فيا بئس مواقف العديدين منهم! فقد وقف بعضٌ من هؤلاء وقفة المتفرّج بسبب وقوعهم تحت سطوة الحكومة السابقة يخشون فقدانَهم شيئًا من امتيازاتهم أو من الوعود التي قطعتْ لهم في حال عدم انصياعهم لتجديد الولاء. وبذلك لا يختلف وصفُهم عن صفة الشعب البائس الذي لا يؤمن إلاّ بجلاّدِه الذي لا بديلَ عنه، لسببٍ بسيط، وهو كونُه الخائب والخاسر الأكبر في كلّ هذا وذاك! فالنائب الذي لا يحفظ الوديعة التي ائتمنهُ الناخب فيها على حاله وماله وعرضه ومستقبلِه ووطنيّته، لا يستحقّ أن يمثّل الشعب، طالما أنه يرفض مقارعة الشرّ والفساد ومحاسبة غير المؤمنين بشيء اسمُه الوطن والمواطن!
لقد راقب عموم الشعب العراقيّ يوم الاثنين 11 آب الجاري، تلك اللحظات الحاسمة التي بها تمكّنت البلاد من الخروج من عنق الزجاجة بفعل عملية قيصرية شديدة القسوة والألم، تمخّض عنها الإعلان عن اتفاق كان لابدّ منه، وهو الذي رجته المرجعية الدينية الرشيدة وعموم الشعب دون استثناء إلاّ من المنعَمين عليهم من الانتهازيّين الذين افترشوا أرضَ العراق فسادًا طيلة ولايتين قاسيتين أودتا بحياة الأبرياء ونقلتا البلاد إلى أسوأ مرحلة كارثية مليئة بالأزمات المتعاقبة. إن تكليف شخصية بديلة لرئاسة حكومة البلاد، من شأنه أن ينزع فتيل الأزمة ويهدّئ الأوضاع ويقود الحكماء من السياسّيين لكسر طوق وضع الاقتتال الذي آلت إليه البلاد والعباد معًا. أمّا ما يحاول افتعالَه رأس الحكومة المنتهية ولايتُه وأتباعُه من المنعَمين عليهم والفاسدين في صفوفهم، من منغصّات وقلب الحقائق والتهديد بفتح نار جهنّم على المعترضين، فلن تكون سوى زوبعة في فنجان، كما قالها البعض، بعد فقدان الحكومة السابقة لأبسط أنواع الشرعيّة واشتداد غضب الله والمرجعية والناس عليهم وعلى أدائهم طيلة ثمانٍ سنواتٍ من المكر والفساد والكذب والخداع والاستغلال على حساب الوطن والمواطِن والمواطَنة بكلّ أوجهها واستحقاقاتها.
هنيئًا للمرجعيات الدينية العراقية الصادقة والجريئة التي استطاعت ان تقول "لا" و"كفى"، للظلم والقهر والخداع والتقسيم والتخاذل. إنّه أوان المطالبة بمرحلة جديدة وعهد جديد ورؤية جديدة فيه تقوم قائمة المواطنة الحقيقية التي تعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه على عهد حكومة عادلة تسود بالعدل والمساواة وتعزّز أواصر المحبة والتآخي والسلام وتنزع إلى الاستقرار والترويح عن المظلومين وتأوي المشرّدين وتداوي جراح النازحين وتعيد لهم ما فقدوه من أمنٍ ومالٍ وعقارٍ على السواء.
إن أملاً جديدًا ورجاءً عتيدًا يحدونا جميعًا، فيها تنتقل البلاد إلى حالها المستقرّ الآمن، لتعود خيمةً وارفة الظلال لكلّ أبنائها وبناتها، بجميع مكوّناتهم وعلى اختلاف تلاوينهم الدينية والمذهبية والاجتماعية. فما أصابَنا من ألام وأحزان ومآسي، كثيرٌ يستدعي صحوة الضمير الإنساني والمنظمة الدولية التي تحرّكت على خجل لمداواة نزيف الهجرة والنزوح وما يُقترف من جرائم إبادة جماعية بحقّ مكوّنات أصيلة لها جذورُها وحضارتُها وإيمانُها وبصماتُها في بنيان الوطن وصيانة الأرض والدفاع عن حدود البلاد واستقرارها. ولنْ يُقبلَ بعد اليوم، السكوتُ عن مثل هذه الجرائم التي تُرتكب بحق الإنسانية جمعاء من عصابات متشدّدة تريد العودة بالبشر إلى قرون التخلّف والظلام. وعلى الدول التي ترعى هذه التنظيمات أو تلك التي تسكتُ عنها أو تموّلها، أن تدرك أنّ الدوائر ستدور عليها، لا محالة، إنْ هي لم تدرك الكارثة منذ الساعة وتحلّل أفعال وتوجهات هذه العصابات التي شوّهت الدين وجعلته أسيرًا بيد شلّةٍ لا تعرف أساس هذا الدّين من أساسه. لعمري، كيف يقبل أصحاب هذا الدّين الأصلاء أن يتلقّوا أدبياته وتفاسيره وشروحاته على أيدي شلّة ضالّة قادمة من بلدان "الجوج والماجوج" التي شوّهت اساسيات هذا الدّين الذي قام في جزيرة العرب أصلاً؟
في الأخير، لا يمكن القبول بما آلت إليه أحوالُ شعبنا عمومًا، من شعورٍ بالمذلّة والنسيان والتسويف في قضيته واقعًا بين فكّي تسوية حسابات داخلية وأخرى خارجية وغيرُها قائمة على موازنات دولية منتفعة. فاللاعبون فيه كثيرون وهم في تزايد مستمرّ.
مشكلة العراق والعراقيّين، أصبحت أكثر تعقيدًا. قد تبدأ عقدتُها بحلّ بالتغيير القائم الذي نأمل أن يكون سريعًا وفاعلاً. فلا شيء غير المواطنة واحترام الآخر المختلف وتقييم الفرد على أساس الولاء للأرض والوطن يمكن أن يكون العلاج لحالنا. وهذا وحده كفيلٌ بوحدة البلاد والأرض وليس بتقسيمها وبتشريد الأبرياء والتفرّج على معاناتهم.
هذا أملُنا وذلك رجاؤُنا. وكان اللهُ في عون المتضايقين والمتألمين ليعودوا قريبًا جدًّا إلى مساكنهم وينالوا تعويضًا عادلاً عن حلالهم المفقود وأمانهم الموعود.
لويس إقليمس
بغداد، في 12 آب 2014
لويس إقليمس
تغّنينا ونتغنّى كثيرًا بالوطن، كما تغنّى ويتغنّى به أبناء جلدتنا في بلدان الاغتراب وهو يسوقون الحنين إلى صغائر الأمور وأطراف الذكريات، جميلةً كانت أم من ذوات الهموم. وما أكثر الهموم هذه الأيام! لكنّ المغنّي تنقطع حبالُه الصوتية ويتوقف لديه الغناء، يوم يلفظُه هذا الوطن بأيّ شكلٍ، بالرغم من غلاء وحلاوة الأخير في طيات قلبه المكسور. ولكنّ هذه الحلاوة، إذا ما انقلبت ويلاتٍ عليه وزرعت في نفسه آلامًا وحصدتْ من ثناياه مآسٍ، كما يحصل اليوم، فلن يعود من مخرجٍ ولا ملاذٍ آمنٍ فيه بعدُ. وهل من مآسٍ أقوى وكوارث أقسى وجرائم أقبح ممّا يعانيه عموم الشعب، والأقليات الدينية والإتنية فيه على وجه الخصوص، هذه الأيام؟
إذا كانت النائبة الإيزيدية فيان دخيل، قد أثارت حسّاسّية وزعل بعض من زملائها النواب تحت قبة البرلمان، وهي تقول كلمة الحق، حيث القتل والذبح والتهجير وما شاكلها من جرائم تحصل تحت "راية ألله أكبر"، فإنها بالمقابل، قد أبكت ملايين المشاهدين ورقّت لها دموع الثكالى وترجرجت بها دمعات الشرفاء، رجالاً ونساءً، وأنا واحدُه، إذ كلُّنا نتعاطفُ مع دموعها التي تحكي مأساة شعبٍ بائس. ولقد بلغني ذات الصوت المبكي والمحزن من زميلها، النائب السابق وصديقي من "شنكال"، وأنا أتواصل للاطمئنان عليه طيلة أيام هذه المعاناة. فقد جاء صوتُه المبحوح كالصاعقة أيضًا، وهو يبكي ويتحسّر ويتأفّف للخذلان الذي صعقه هو الآخر، عندما تخلّت قوات البيشمركة عن مناطقهم في ساعة سوداء، فوقعوا ضحايا بين أنياب العصابات القاتلة، التي قتلت وهدّدت وذبحت، كما اغتصبت نساءَهم واقتادت فتياتهم وحرائرَهم ليُبعن في سوق نخاسة بدعوى بدعة "نكاح الجهاد". لقد أبكاني هذا الرجل الأمين لشعبه والوفيّ لجماعته وهو الذي أضنى ذاتَه وهو يدافع عن مكوّنه تحت خيمة "البارتيّ الكردستانيّ"، وإن يكنْ! كنتُ أنصتُ له على الهاتف وهو يستغيث بقشة نملة شاكيًا الحال المرير لأبناء منطقته وما آل إليه الآلاف منهم وهم يصارعون الموت من القيظ الّلافح وانعدام الماء والطعام في طيّات جبل سنجار ومغائره ووديانه تحت رحمة السماء وضربات المسلّحين قساة الرقاب وتهديداتهم الّلاإنسانية.
وللحق، تألمتُ كثيرًا أيضًا، وأنا أتابع أحوال صديقي "التركمانيّ صبري" في تلعفر منذ اجتياح مسلّحي داعش لمدينتهم بعد انهيار الموصل وتخاذل فرقها العسكرية والأمنية الثلاث التي انهزمت مكسورة مهانة مِن أمام عدة مئات من عصابات تحمل الأعلامَ السود مدجَّجةً بإعلامِ الترهيب والوعيد والتهديد سلاحًا فتّاكًا، تمكنت بواسطته القضاء على جحافل عراقية جرّارة، يُحسبُ لها حساب في المنظور العسكري والسّوقيّ والتعبويّ.
وها هو صديقيّ الآخر "الشبكي سعد"، وهو يروي مشاركة عناصر من أبناء جلدته في الأعمال الوحشية التي ترتكبها "داعش" في قراهم المجاورة للموصل والقرارات التي تصدرها المحكمة الشرعية التي أنشأها هذا التنظيم في قريته للانتقام مِن كلّ مَن لا يبايع الخليفة المستحدث.
أيَّ عصر يعيشه العالم الإسلاميّ اليوم؟ هل هو عصر التقهقر والانهيار الخلقيّ والدينيّ والاجتماعيّ بأيدي أدعياء دينٍ جديد، استوحوه مِن جبال أفغانستان وثنايا الشيشان ودهايز باكستان وكهوف تركستان مرورًا بأودية إيران وتعرّجات كردستان وتبريكًا من فيافي جزيرة العرب "الّلاعرب"، البعيدين عن عروبة حاتم الطائي والأعشى وقسّ بن ساعدة وأبي نؤاس والمتنبيّ وأبي تمّام وبني العباد وتميم وتغلب وما سواهم؟ ما للعراقيين اليوم، وقد غابَ عنهم الحسّ الوطنيّ وأغشاهم التقاتل الإتنيّ واستقوى بهم القياس المذهبيّ واستعَرَ عندهم الهوس الطائفيّ بعد أن أصبحَ همَّهم الأوحد، ولا شيءَ آخرَ سواه؟ أيُعقل أن ينهزم جيشٌ دولة أمام شرذمة لا تتجاوز بضعة آلافٍ ويستسلم بكلّ ما يملكُه من عدّة وعتاد، خفيف ومتوسط وثقيل، في غضون بضعة ساعات، لمجرّد السماع بقدوم طلائع "داعش" على أبواب مدينة عظيمة مثل نينوى؟
ويأتي السؤال ملحاحًا: هل سنواصل الغناء والتغنّي بالوطن بعد كلّ هذا الذي عشناه وذقناه وشهدناهُ؟ أمْ سنسلكُ الطريق الأسهل ونلتحق بمَن سبقَنا مهاجرين إلى بلدان الاغتراب التي خطّطت ونفّذت جريمة تفريغ بلدنا من كلّ ما هو مختلف عن رؤية الأسياد وبرامجهم؟ إنها لمعدلةٌ صعبة حين اتخاذ القرار. ولكنْ، إنْ كان لا مفرَّ منه، فليكنْ. فالإنسانُ وُلدَ حرًّا كي يقرّر ما ينفع حياَته وما يستوي به مستقبلُه ويرتاح له مصيرُه. فالظروف هي التي تحكمُ وتتحكّمً أحيانًا بصمير ومستقبل الإنسان، بالرغم من بقاء الوطن وذكرياته في حدقات الأعين وطيّات القلوب وثنايا النفوس الحانية.
سخرية القدر!
عندما استبيحت مناطق الأقليات التي تمسكّت بها حكومة الإقليم بأسنانها وأدواتها وسطوتها منذ 2003، وتقهقرت عنها بين ليلةٍ وضحاها، صدقَ البسطاء ما أُشيع عن كون ذلك التحرّك مجرّد تكتيك حربيّ، سرعان ما تستعيد قوات البيشمركة المبادرة وتطرد الدواعش ومَن يلفُّ لفَّهم. كما سبق هذه الحركة، مفاوضات ونقاشات ولقاءات بين ممثلي شعب هذه المناطق وقيادات كردية، وعلى رأسها فخامة رئيس الإقليم الذي صرّحَ مرارًا وتكرارًا، "نعيشُ أو نموتُ معًا"، فيما وعدَ النازحين من الموصل بزيارتهم بُعَيد أيامٍ على مغادرتهم مدينتهم منكوسي الرأس وبائسين! وأسفي على الوعود الكثيرة التي استقاها ممثلو هذه المناطق، من مسيسحيين وإيزيديين وشبك وكاكائيّين وصابئة وآخرين، من لدن قيادة الإقليم، التي لم تبرّ بما وعدت، بل تخلّت عن ساكنيها ومناطقهم، وهي التي ادّعت ملكيتَها منذ السقوط حينما عدّتها مناطق متنازَع عليها وضمن أراضيها بغير وجه حقّ. وهي بتلك الفرية التي اُقحمت في بنود الدستور الأعرج، كانت حقًا قنابل موقوتة، وقد آن وقت انفجارها حينما انكشفت حقائق كثيرة وصفقات ومساومات كانت تجري من خلف الكواليس بحق هذه المناطق وساكنيها. وبذلك تكون حكومة الإقليم بسيطرتها على تلك المناطق منذ السقوط، قد حرمتهم من حماية الدولة الفدراليّة التي تنازلت عنها هي الأخرى مرحليًا لصالح الإقليم. والسبب واضح يعود في مجمله إلى ضعف الحكومة المركزية وعدم اهتمامها بتلك المناطق، لا لشيء إلاّ لكون أبناء هذه المناطق من مسمّيات أخرى وفصائل مختلفة، وهي بالتالي بعيدة عن اهتمامات نهجها عبر مسيرتها التي استمرّت ثماني سنوات عجاف بلياليها ونهاراتها المؤلمة المليئة بالأزمات المتلاحقة والمشاكل المفتعَلة المائلة جميعًا لخلق دولة طائفية وليس دولة المواطنة.
عندما سخر إقليم كردستان من أشكال التصرّف التخاذليّ الذي ظهرَ عليه الجيش الاتحاديّ، أعطيناهم الحق، ظنًّا منّا أنّ ما ستحقّقُه قوات البيشمركة "المحترفة"، سيكسر شوكة المهاجمين عندما يتخّذ المبادرة ويتولّى الدفاعَ عن أراضي الوطن جميعها، لكونِه جزءًا منها وما يصيبُ عموم أراضي الوطن يصيبُه هو أيضًا. دارت الأيام وتوالت اللّيالي سوداوية قاتمة والتنظيم المسلّح يتقدّم بخطى واثقة "يمشي ملَكًا" ويتسع ويتوسع على حساب الحكومتين الفيدرالية والإقليم، حتى بات يهدّد الأخير هذه الأيام. ويتساءل الناس: أينَ وعود رئيس الأقليم التي تبخرت أسرَع من الغيوم الخفيفة، على ثقلِها وقتامتِها وسوداويتها؟ أيُعقل أن يتراجع جيش البيشمركة والزريفاني وتشكيلات أمنية وعسكرية مساندة غيرُها بهذه السرعة وتترك مواقعَها التي احتلّتها منذ 2003 والتي من أجلها عاندت وأصرّت وتكابرت طيلة هذه السنين العجاف؟
في حينها، تابعت وسائل التواصل الاجتماعيّ والأوساط الشعبية وعود فخامة رئيس الإقليم وعدّتها وثيقة شرف يمكن الاعتماد عليها، لكونها صادرة من أعلى قمّة في هرم السلطة بالإقليم. ولكن سرعان ما تهاوت معاني هذه الكلمات وفقدت مصداقيَتها عندما خذلتها قوات البيشمركة المتواجدة على حدود جميع المناطق المتنازَع عليها التي تسكنها أقليات إيزيدية ومسيحية وشبكية على وجه الخصوص، بدءًا من أقضية الحمدانية وتلكيف والشيخان وسنجار ومناطق ربيعة وزمّار ووانة وسنوني والسدّ وبادوش حتى فيشخابور على الحدود السورية. بل إنّ الزيارة التي وعد فخامة رئيس الإقليم لأهالي الموصل النازحين بعد لقائه إياهم، لم تُنجز أو تتحقّق. وعوضًا عن ذلك، خسر الإقليم ما احتفظ به من أراضٍ وبلداتٍ طيلة تلك السنوات العجاف، وأصبح قابَ قوسين أو أدنى من سقوط محافظاته الثلاث بفعل الضربات الموجعة والتقدّم الجارف لمسلّحي داعش سريعي الحركة والبطش. ولولا الالتفاتة الدولية لحلفاء كردستان وتحرّكهم في الوقت الضائع المتاح، لكانت أجزاء من أراضي الإقليم قد سقطت بأيدي هؤلاء البرابرة، بعد وصولهم منطقة الخازر واحتلالهم مخمور وبلدات غيرها الواحدة تلو الأخرى. لكنّ الوضع ما زالَ حرجًا. فنحن نقرأ الأحداث أحيانًا من حركة الشركات الأجنبية العاملة والسلك الدبلوماسيّ المعتمَد وحركة المطارات عمومًا. وهذه كلُّها لا تنبئ بخير قريبٍ، في الأقلّ في القريب العاجل.
إن الوضع المنهار لقوات البيشمركة بعد الجيش الفيدرالي، لهو دليلٌ قاطع على توجّه الوطن نحو شفير الهاوية، إن لم يكن قد فقد سرَّ قوته المعنوية بعدُ. وها هو اليوم، يقف على عتبة مفترق طرق: إمّا أن تقوم له قائمة من جديد إن أُنعمَ بحكومة ذات توجهات وطنية نزيهة وصادقة بعيدة عن كلّ أشكال الطائفية والتخندق الفئويّ الضيّق، أو يسقط ويتهاوى كلُّ شيء فيه بانتظار مصير محتومٍ لا ولم يستحقّه إلاّ بفعل الأغراب عنه من الذين نزعوا لباس الوطنية واتشحوا ببردعة طائفية ومذهبية وشخصية، عوض وشاح الوطنية والمواطنة.
لقد فقد قادة الإقليم مصداقيتَهم أيضًا، كما القادة السياسيون في البلد. فلا الوعود التي قطعوها أوفوا بها، ولا تمكنوا من صدّ هجمات التتار الجدد ولا حرصوا على حسن إيواء النازحين الذين مازالوا يفترشون الأرض وينتشرون في الساحات والشوارع تائهين وهائمين على وجوههم وسط استجابة محصورة وضيّقة بتقديم وجبات خفيفة ومواد غير ذات قيمة تُحسب عليهم وليمةً كبرى ومنّةً فضلى. إنّ ما يعانيه مواطنونا من رعاية دنيا ونظرة ازراء بتواجدهم في مدن وبلدات كردستان، ومنها مدينة عنكاوا المسيحية بالذات، لهو عارٌ على جبين المسؤولين والأدوات القائمين في هيئات شؤون الأقليات من المتبجّحين على رعاية المشرّدين والنازحين من بلدات معروفة بكرمها وأنفتها وتراثها مثل قرقوش وكرمليس وبرطلة وتلكيف وبعشيقة وبحزاني وتلكيف وباطنايا وتللسقف وباقوفا وأخرى غيرُها. وكذا الحال ينطبق على القرى والقصبات العائدة لمكوّنات من غير المسيحيين.
إنّ العجز بإيجاد مأوى لائق لهذه العوائل المشرّدة وترك العديد منها في العراء تحت لفحة حرارة الصيف القاسية، لهو علامةٌ على لا مبالاة القيادات القائمة أو تهاون أدواتهم ومَن يُفترض بهم من القيادات الدعية الذين كانوا اوّلَ مَن أسكنوا عوائلَهم في فللٍ وقصور ومآوي آمنة، في حين تركوا المتعَبين ومَن لا معارف لهم يفترشون الشوارع وفي العراء أو محشورين داخل باحات الكنائس والمدارس والساحات المكشوفة. إن المشاهد التي تنشرها وتعرضها قنواتٌ فضائة مهمة، مثل قناة عشتار، لهي دليلٌ ساطع على مدى الإهمال الذي يلاقيه النازحون. وهذا ما لا يليق بشعبٍ ذي حضارة ولا نقبله نحن المسيحيين الأباة، ولاسيّما في قرقوش التي سبق أن فتحت أبوابَها زمنَ حرب الشمال في الخمسينات والستينات وحتى أخيرًا بعد الأحداث في 2003 ولغاية سقوطها في 6 آب الجاري. شعبُنا وأهلُنا لا يستحقون مثل هذه المعاناة البائسة، ولا نقبل أن يعيشوا في بلا كرامة ولا خدمات في خيم أو في العراء، ولا مِن مبالٍ!
لقد سجّلَ العديد من النازحين الذين قصدوا بلدة عنكاوا "المسيحية" ملاحظات مؤسفة وتصرّفات محزنة بل مخجلة لا تليق بالمسيحيين، من الذين استغلوا حاجة الناس إلى مأوى، فطلبوا إيجارات خيالية وآخرون رفعوا الإيجارات السابقة دون وجه حق. أقولها وبكلّ أسف، لم يعد حتى في أوساطنا مَن يهتمّ للأخلاق التي تربينا علينا وعلّمنا إياها الإنجيل. أنقل لكم حادثتين من هذا القبيل.
في الحادثة الأولى حين قصفِ قرقوش بالهاونات ومغادرة الأهالي باتجاه عنكاوا، اتجّهت عائلة أحد الشباب الذي كان لتوّه قد أجّرَ شقّةً مفروشة بألف دولار شهريًا. ولكن ما أن رأت صاحبة الشقة (وهي طبيبة ولها إقامة كندية) مجموعة النازحين والفارّين من نيران الظالمين يدخلون الشقّة، اعترضت وامتعضت بحجة أنّ الداخلين "أناسٌ شعبيّون"، ومن ثمَّ لا يليق بمقامها أن ترى أمثالَهم في مُلكها، وهي أساسًا طبيبة نازحة من الموصل آوتها عنكاوا واشترت ملكًا فيها.
والحادثة الثانية، فيها رفعت صاحبة ملكٍ إيجارَ شقّة صغيرة بغرفة واحدة وحمّام وهول صغير من 500 دولار إلى 750 دولارًا لأسرة مكوّنة من شابين متزوّجين حديثًا.
وهناك أمثلةٌ غيرُها سمعنا ونسمع بها. ولكنّي اقتصرتُ في روايتي على ما شهدتُه شخصيًّا أمام ناظريَّ. وليسمع مَن له أذنان سامعتان. ومَن يأبى، فليذهب إلى الجحيم، فهو بفعلتِه شريكٌ في التشريد والجريمة ولا يسمع قول الربّ الواضح: "طوبى للرحماء، فإنّهم يُرحمون". ولنتذكّر فقط ما قام به السامريّ الطيّب، حين داوى جراحَ اليهوديّ وطلبَ من صاحب النزل أن يأويه ويقدّم له الطعام والشفاء على نفقتِه. إنها مجرّد مقارنة بما يحصل اليوم، واللبيب من الإشارة يفهم!
في ذات الوقت، تجدر الإشارة بشيء من الامتنان والتقدير لما تقوم جهات كنسية وخدمية وشباببة من متطوعين في هذه البلدة من أجل إزاحة جزءٍ من هموم النازحين وبلسمة جراحهم وآلامهم. فشعبُنا لا يستحق مثل هذه المهانة التي يلقاها من طرف بعض المستغلّين والمتاجرين بهمومهم ومآسيهم.
أمل ورجاء جديدان
ما نحنُ عليه اليوم، حقيقة واقعة. ألم ومأساة لجماعات يُراد اجتثاثُها من جذورها وقلعها من أصولِها وعن بكرة أبيها ضمن مخطَّط شيطانيّ تقوده وترعاه دول شرسة وسافرة برعاية أمريكية - صهيونية - إسلامية. وما تتناقلُه بعض وسائل التواصل الاجتماعيّ والأخبار التي تترشّح هنا وهناك من تأمين اتصالات مع خليفة المسلمين الدعيّ، أبو بكر البغدادي، ولقاءاته في أوقات سابقة مع شخوصٍ بالإدارة الأمريكية وعناصر من الموساد وشخصيات إخوانية وأخرى متشدّدة داخلة على ذات الخط، كلّها دلائل على تنفيذ مخطَّط إفراغ العراق والشرق الأوسط من المسيحيّين. كما أنّ رفض الإدارة الأمريكية، و"أوباما حسين" بالذات، بالتدخل السريع لمقارعة "داعش" ووقف توسّعها، والتريث ومراقبة الأوضاع لما ستؤول إليه في العراق، هي الأخرى من سمات هذا المخطّط الشيطاني الدوليّ. وإذا حصل تنديد واستنكار علنًا هنا وهناك، فقد حصل على خجل ولرفع العتب بسبب ضغوطات المجتمع الدولي والدول التي ما تزال فيها ذرّة من الأخلاق، في شعبها وليس في حكوماتها غير المبالية.
أمّا النواب في العراق، فيا بئس مواقف العديدين منهم! فقد وقف بعضٌ من هؤلاء وقفة المتفرّج بسبب وقوعهم تحت سطوة الحكومة السابقة يخشون فقدانَهم شيئًا من امتيازاتهم أو من الوعود التي قطعتْ لهم في حال عدم انصياعهم لتجديد الولاء. وبذلك لا يختلف وصفُهم عن صفة الشعب البائس الذي لا يؤمن إلاّ بجلاّدِه الذي لا بديلَ عنه، لسببٍ بسيط، وهو كونُه الخائب والخاسر الأكبر في كلّ هذا وذاك! فالنائب الذي لا يحفظ الوديعة التي ائتمنهُ الناخب فيها على حاله وماله وعرضه ومستقبلِه ووطنيّته، لا يستحقّ أن يمثّل الشعب، طالما أنه يرفض مقارعة الشرّ والفساد ومحاسبة غير المؤمنين بشيء اسمُه الوطن والمواطن!
لقد راقب عموم الشعب العراقيّ يوم الاثنين 11 آب الجاري، تلك اللحظات الحاسمة التي بها تمكّنت البلاد من الخروج من عنق الزجاجة بفعل عملية قيصرية شديدة القسوة والألم، تمخّض عنها الإعلان عن اتفاق كان لابدّ منه، وهو الذي رجته المرجعية الدينية الرشيدة وعموم الشعب دون استثناء إلاّ من المنعَمين عليهم من الانتهازيّين الذين افترشوا أرضَ العراق فسادًا طيلة ولايتين قاسيتين أودتا بحياة الأبرياء ونقلتا البلاد إلى أسوأ مرحلة كارثية مليئة بالأزمات المتعاقبة. إن تكليف شخصية بديلة لرئاسة حكومة البلاد، من شأنه أن ينزع فتيل الأزمة ويهدّئ الأوضاع ويقود الحكماء من السياسّيين لكسر طوق وضع الاقتتال الذي آلت إليه البلاد والعباد معًا. أمّا ما يحاول افتعالَه رأس الحكومة المنتهية ولايتُه وأتباعُه من المنعَمين عليهم والفاسدين في صفوفهم، من منغصّات وقلب الحقائق والتهديد بفتح نار جهنّم على المعترضين، فلن تكون سوى زوبعة في فنجان، كما قالها البعض، بعد فقدان الحكومة السابقة لأبسط أنواع الشرعيّة واشتداد غضب الله والمرجعية والناس عليهم وعلى أدائهم طيلة ثمانٍ سنواتٍ من المكر والفساد والكذب والخداع والاستغلال على حساب الوطن والمواطِن والمواطَنة بكلّ أوجهها واستحقاقاتها.
هنيئًا للمرجعيات الدينية العراقية الصادقة والجريئة التي استطاعت ان تقول "لا" و"كفى"، للظلم والقهر والخداع والتقسيم والتخاذل. إنّه أوان المطالبة بمرحلة جديدة وعهد جديد ورؤية جديدة فيه تقوم قائمة المواطنة الحقيقية التي تعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه على عهد حكومة عادلة تسود بالعدل والمساواة وتعزّز أواصر المحبة والتآخي والسلام وتنزع إلى الاستقرار والترويح عن المظلومين وتأوي المشرّدين وتداوي جراح النازحين وتعيد لهم ما فقدوه من أمنٍ ومالٍ وعقارٍ على السواء.
إن أملاً جديدًا ورجاءً عتيدًا يحدونا جميعًا، فيها تنتقل البلاد إلى حالها المستقرّ الآمن، لتعود خيمةً وارفة الظلال لكلّ أبنائها وبناتها، بجميع مكوّناتهم وعلى اختلاف تلاوينهم الدينية والمذهبية والاجتماعية. فما أصابَنا من ألام وأحزان ومآسي، كثيرٌ يستدعي صحوة الضمير الإنساني والمنظمة الدولية التي تحرّكت على خجل لمداواة نزيف الهجرة والنزوح وما يُقترف من جرائم إبادة جماعية بحقّ مكوّنات أصيلة لها جذورُها وحضارتُها وإيمانُها وبصماتُها في بنيان الوطن وصيانة الأرض والدفاع عن حدود البلاد واستقرارها. ولنْ يُقبلَ بعد اليوم، السكوتُ عن مثل هذه الجرائم التي تُرتكب بحق الإنسانية جمعاء من عصابات متشدّدة تريد العودة بالبشر إلى قرون التخلّف والظلام. وعلى الدول التي ترعى هذه التنظيمات أو تلك التي تسكتُ عنها أو تموّلها، أن تدرك أنّ الدوائر ستدور عليها، لا محالة، إنْ هي لم تدرك الكارثة منذ الساعة وتحلّل أفعال وتوجهات هذه العصابات التي شوّهت الدين وجعلته أسيرًا بيد شلّةٍ لا تعرف أساس هذا الدّين من أساسه. لعمري، كيف يقبل أصحاب هذا الدّين الأصلاء أن يتلقّوا أدبياته وتفاسيره وشروحاته على أيدي شلّة ضالّة قادمة من بلدان "الجوج والماجوج" التي شوّهت اساسيات هذا الدّين الذي قام في جزيرة العرب أصلاً؟
في الأخير، لا يمكن القبول بما آلت إليه أحوالُ شعبنا عمومًا، من شعورٍ بالمذلّة والنسيان والتسويف في قضيته واقعًا بين فكّي تسوية حسابات داخلية وأخرى خارجية وغيرُها قائمة على موازنات دولية منتفعة. فاللاعبون فيه كثيرون وهم في تزايد مستمرّ.
مشكلة العراق والعراقيّين، أصبحت أكثر تعقيدًا. قد تبدأ عقدتُها بحلّ بالتغيير القائم الذي نأمل أن يكون سريعًا وفاعلاً. فلا شيء غير المواطنة واحترام الآخر المختلف وتقييم الفرد على أساس الولاء للأرض والوطن يمكن أن يكون العلاج لحالنا. وهذا وحده كفيلٌ بوحدة البلاد والأرض وليس بتقسيمها وبتشريد الأبرياء والتفرّج على معاناتهم.
هذا أملُنا وذلك رجاؤُنا. وكان اللهُ في عون المتضايقين والمتألمين ليعودوا قريبًا جدًّا إلى مساكنهم وينالوا تعويضًا عادلاً عن حلالهم المفقود وأمانهم الموعود.
لويس إقليمس
بغداد، في 12 آب 2014
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت فبراير 17, 2024 4:02 am من طرف Jo Hermiz
» رمش عيد ختان الرب 2022
الخميس فبراير 15, 2024 3:09 pm من طرف Jo Hermiz
» الجمعة الرابعة من السوبارا
الأربعاء فبراير 14, 2024 5:43 pm من طرف Jo Hermiz
» تشبوحتا
الخميس سبتمبر 01, 2022 3:32 pm من طرف Jo Hermiz
» شبح لالاها معشنان
الثلاثاء مايو 03, 2022 5:20 am من طرف Jo Hermiz
» تشبوحتا دمثأمرا بسهرة الحش يوم خميس الفصح بعد الانجيل
الجمعة أبريل 15, 2022 3:04 pm من طرف Jo Hermiz
» شليحا دعيذا قديشا دقيمتيه دمارن
الخميس أبريل 14, 2022 3:09 pm من طرف Jo Hermiz
» قريانا دعيذا قديشا دقيمتيه دمارن
الأربعاء أبريل 13, 2022 3:48 pm من طرف Jo Hermiz
» قولاسى دقوداشا تليثايا تسجيل جديد
الأربعاء أبريل 13, 2022 3:06 pm من طرف Jo Hermiz