ابونا ابراهيم .. لماذا رحل من اور الكلدانيين ؟

بقلم / حبيب تومي
مقدمة :
ابونا ابراهيم ، وفي موروثنا ( بابان اوراها ) وملقب بأبي المؤمنين . ان هذه الشخصية نالت المحبة والتقدير من من معتنقي الأديان السماوية ، وتابع سيرته الملايين من البشر ، وتطابق هذا مع دعوى الرب لابراهيم ( ... فاجعل منك امة كبيرة ، وابارك وأعظم اسمك ، وتكون بركة لكثيرين . وابارك مباركيك والعن لاعنيك ، وتتبارك فيك جميع امم الأرض تك 12 : 2- 3 ) .
ولا غرو ان تحظى سيرته بالبحث والتحليل من قبل المؤرخين والكتاب والعلماء ورجال الدين .
نسب ابراهيم :
البدايات كانت في العهد القديم من الكتاب المقدس ، وبالتحديد منذ سفر التكوين حيث افاض في سيرة ابينا ابراهيم ، وأثبت مولده في اور الكلدانيين ، ونسبه الى سام بن نوح ، فهو ابرام بن تارح ابن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن ارفكشاد ابن سام بن نوح . وذكر ابناء تارح : ولد تارح ابرام وناحور وهاران .وولد هاران لوطا . ومات هاران قبل تارح ابيه في ارض مولده في اور الكلدانيين < 1 > . اتخذ ابرام وناحور لهما زوجتين اسمهما ساراي وملكة بنت حاران ... اما ساراي فهي بنت تارح من زوجة اخرىحيث جاء على لسان ابراهيم : هي بالحقيقة اختي ، ابنة ابي ، غير انها ليست ابنة امي فاتختها زوجة لي <2 > .
السجل الأركيولوجي { Archeology } لمدينة اور :
حينما ابتدأ الناس بالحفر للبحث عن الآثار ، كان همهم منصباً على العثور على الأشياء النفيسة ، لكن بتطور هذا المجال ، اصبح الناس يهتمون بما هو اغلى ، الا وهو السجل الأركيولوجي الذي يحكي قصة التاريخ عبر تلك الآثار الكتشفة ، واستطاع العلماء والباحثون فك تلك الرموز ونقلها الى لغة مفهومة للناس عموماً .
ان قصة الطوفان التي وردت في التوراة على تلك الصورة الرائعة ، وقبل ذلك في النقوش السومرية والبابلية ، تشير الى حادث مروّع ، لبث محاطاً في ذاكرة الناس بغشاوة الماضي السحيق ، وكان على خلائق القرن العشرين ان ينتظروا اعمال الحفر في اور وغيرها من المدن العراقية في الجنوب ، لتكون نتائج الحفريات وسيلة لألقاء الضوء على ترسبات الطوفان وتحديد تاريخها . وينبغي ان لا تستولي علينا الدهشة اذا ما وجدنا نتائج اعمال الحفر تؤيد ما جاء في الكتب المقدسة عن الطوفان على انه حادث مروع اصاب الناس في ذلك الزمن .
عندما تعلم الناس في جنوب ارض العراق ( الحقبة السومرية / الأكدية ) كيف يعبرون عن افكارهم بالنقش على الواح الطين ، كانت قصة الطوفان العظيم اول ما دونوه على الواحهم . وكانت القصة جزءاً من التراث الشفهي الذي حمله ابراهيم واتباعه معهم عندما هاجروا من المدينة السومرية القديمة ( اور ) الواقعة في وادي الفرات الأسفل عبر صحراء سوريا الى كنعان < 3 > .
ـ في عام 1854م كان ج . ا. تيلور القنصل الأنكليزي في البصرة قد قام بالتنقيب ، وعثر على بعض النقوش التي بينت موقع مدينة اور .
ـ في عام 1922 م بدأت بعثة مشتركة من المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا الأمريكية وبرئاسة السير ليونارد وولي بأعمال التنقيب في القبور الملكية بمدينة اور .
فعثرت البعثة على كميات كبيرة من الحلي والمصوغات من الذهب والفضة . كما كشفت عن طقوس مرعبة يكاد العقل لا يتصورها ، الا وهي دفن افراد حاشية الملك او الحاكم مع سيدهم ، وهم احياء وبكامل زينتهم وملابسهم ومعداتهم . وبعد المزيد من الحفر تحت القبور ، زال كل ما تركه الأنسان من بقايا ومخلفات ، وظهرت التربة الرسوبية .
لكن الأستمرار بالحفر اسفل تلك التربة وبعمق 8-18 قدم بدأت تظهر فضلات ومخلفات مستوطنات بشرية تعود الى العصر الحجري الحديث {Neolithic } ، وتحت هذه المستوطنات ظهرت التربة العذراء التي نشأ عليها سكان العراق القديم .
بهذا يكون ترتيب الحوادث في مدينة وما يجاورها ، وحسب السجل الأركيولوجي ، ان هذه المدينة تعود الى الماضي ما بين ق . م وترتكز على طين كان يعتقد انه طين الدلتا نفسها . لكن اسفل ذلك الطين 8 – 18 قدم كانت مخلفات بشرية تعود الى العصر الحجري الحديث حيث كانوا يحصدون الحبوب بمناجل ذات شفرات من الحجر المجفف بالنار ويربون الماشية ، ويصطادون الأسماك ، وينسجون القماش على نول بدائي ، ويعملون اواني فخارية ، ويمكن نعدهم مجتمعاً متقدماًُ بالنسبة لزمنه ، ثم داهمهم الطوفان الذي اهلك الغالبية العظمى من السكان . ومن نجا من الكارثة عدّها عقاباً انزلته الآلهة بهذا الجيل الذي انغمس في ارتكاب المعاصي .
اذا كان بعض القوم قد نجا من الغرق باعتصامه في سفينة ، فمن الطبيعي ان ينتخب رأس هذه الجماعة كبطل لهذه الواقعة . واصبح هذا الحدث نهاية لعهد وبداية لعصر جديد ، وإذا ما اخذنا الحوادث كما جاءت في الكتب المقدسة ، فابراهيم وأتباعه هم احفاد الذين نجوا من الكارثة ، وبدورهم اختلطوا مع الموجات الجديدة من الناس الذين استقروا في جنوب وادي الرافدين ، للأستفادة من خيراته وتربته الخصبة .
زمن ابراهيم :
من الحكمة معرفة الزمن الذي عاشه ابونا ابراهيم ، ولو بصورة تقريبية ، ليتسنى لنا تسليط الضوء على الظروف التي عاشها . في تعليقات لاهوتية : ( نعرف تاريخياً انه نحو 2000 سنة ق . م كانت جماعات شبه رحّل تدور حول المدن الكبيرة في الشرق الأوسط . ولابد من ان عائلة ابراهيم كانت ضمن احدى هذه القبائل البدوية ) <4 > .
( معظم المنقبين يعينون تاريخ ابراهيم في زمن متوسط بين اوائل القرن الثامن عشر وأواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد ) <5> .
وتقول تعليقات ابنجدون {Abingdon } التي اشترك في تأليفها سبعين عالماً من علماء التاريخ الديني والتوراتي :
ان تاريخ العبريين الرسمي يبتدئ بقبيلة من هذه القبائل سكنت الى جوار مدينة اور الكلدانيين في جنوب العراق ، وعند نهاية الألف الثالثة ق . م هاجر فريق منهم الى الشمال بقيادة رئيس يسمى تارح ، كما جاء في الأصحاح الحادي عشر من سفر التكوين < 6 > .
نتطرق الى مرجعين تقليديين ، هما اطلس وستمنستر التاريخي وموسوعة وستمنستر طبعة 1944 ، وهما خاصان بجغرافية التوراة والعهد الجديد وتاريخهما .
حدد الأطلس التاريخي عصر ابراهيم سنة ق . م وترى الموسوعة اعتماداً على تقدير الأسقف يوشر ـ ان مولد ابراهيم يوافق عام 1996 ق . م < 7 > . هذه المصادر وغيرها تساعدنا في تحديد زمن ابراهيم بصورة تقريبية ، ويكون بالأمكان تسليط الضوء على تلك الظروف في الفترة الزمنية المذكورة .
اوضاع اور الأيكولوجية { Ecology } في عهد ابراهيم
لتكوين تصور واضح عن عهد ابراهيم وبداية رحلته ، لابد من القاء الضوء على الأحوال الأيكولوجية السائدة وهي تشمل التلاؤم بين الأنسان والمحيط الطبيعي ( البيئة ) .
يقول الثقات ان مناخ الأرض في الفترة من ق . م كانت ادفأ من عصرنا الحاضر وشد رطوبة ، وكانت هذه الفترة 1500 سنة من اخصب الفترات في تاريخ البشرية ، فلم يضطر الناس الى الهجرة الا بسبب ضغط تزايد السكان < 8 > . لكن في فترة تالية بلغت الفاً او الفين من السنين وربما اكثر او اقل قليلاً ، انتقل حزام الأمطار شمالاً ليترك السهول الخضراء في جنوب العراق وغيرها ويحولها الىالى صحراء محرقة مألوفة لنا في الوقت الحاضر .
ان القاطنين في في جنوب العراق لجأوا الى شق القنوات والترع للتعويض عن شحة سقوط الأمطار وانحسارها ، لكن هذا بدوره لم يخل من المشاكل والمضاعفات ، إذ ازدادت ملوحة التربة بسبب ارتفاع مستوى المياه الجوفية وسوء تصريف مياه البزل ، وكان من البديهي ان يقوم السكان او بعضهم بالهجرة من هذه المنطقة الى ارض الله الواسعة .
الأحوال السياسية :
بديهي ان تدهور الأحوال الأقتصادية قد أثر بصورة سلبية في الأحوال السياسية . فها هي المدن السومرية تنفصل عن اور الواحدة تلو الأخرى وضعفها يغري الطامعين العيلاميين والمتعاونين معهم بغزوها . تقول تعليقات ابندجون :
ربما كان من اسباب هذه الهجرة اضطراب سياسي في جنوب العراق ، اصابت جرائره معيشة اهل اور ، ولعل هذا الأضطرا بقد نشأ من تحول السيطرة السياسية من المدن العراقية الى قبائل عيلام . فلم تستقر عليه احوال المعيشة والتجارة في مدينة اور <9> .
في ظل هذه الأوضاع ، لا غرابة ان نجد قبيلة ابراهيم تختار الهجرة الى حاران التي كانت كما يبدو المكان الثابت لاقامة العائلة .
ان احوال اور الكلدانيين المأساوية يجسدها الشاعر السومري القديم في مرثية اور فيقول :
اور في داخلها موت وفي خارجها موت
في داخلها نموت نحن من الجوع
وفي خارجها نقتل نحن بأسلحة العيلاميين
لقد اخذ العدو اور ..
ورفع مزالج بواباتها ، وها هي ابوابها مشرعة الى اليوم
لقد داسها العيلاميون مثل سيل عرم
فتحطمت اور بفعل السلاح مثلما يتحطم اناء من فخار ... <10 > .
امور دينية :
لكي نفهم اهمية وموقع ابراهيم من الناحية الدينية ، لابد من الأطلاع على ما كانت عليه الحياة الدينية وقتئذِ فتعدد الآلهة { Polytheism } كمعتقد ديني ، كان سائداً لدى اغلب الشعوب البدائية ولكن في الوقت عينه كان اكثر تقدماً وتعقداًلدى اصحاب الحضارات الأرقى كالفرعونية والبابلية والآشورية . وهذا ناجم عن تعقد الحياة وتفرع شؤونها فثمة آلهة للظواهر الطبيعية كالمطر والصحراء والقمر والرعد .. وغيرها للحب والخصوبة والموت .. ولهذه الآلهة مجلس ، ويرأسها اله كبير قو ي. عندما جاء ابونا ابراهيم ونادى بالوحدانية { Monotheism } ربما كان من ادعى الوحدانية قبله ، لكن دعوى ابينا ابراهيم كانت مختلفة جذرياً . فأله ابراهيم مدبر حنون ، رحوم ، فنلاحظ حينما اراد ابراهيم ان يقدم ابنه اسحق ضحية للرب ، ناداه ملاك الرب من السماء قائلاً : ابراهيم ابراهيم فأجابه : نعم . فقال ملاك الرب : لا تمدد يدك الى الصبي ، ولا توقع به ضرراً لني علمت أنك تخاف الله ولم تمنع ابنك وحيدك عنّي تك 22 : 11 و 12 .
وباركه ملكي صادق الذي كان كاهناً لله العلي قائلاً :لتكن عليك يا ابرام بركة الله العلي مالك السماوات والأرض تك 14 : 19 .
خاتمة :
الآن نتساءل لماذا لا تكون افكار ودعوات ابينا ابراهيم حديثة في زمنه ، وإذا ما قورنت بالأختراعات البشرية : الكتابة ، الزراعة ، العجلة ، اشعال النار ..الخ ، ستكون افكاره النيرة أخطر هذه المخترعات وأكثرها تأثيراً في مسيرة البشرية ، ان ايمانه العميق بالله وبقدرته دعاه الى الهجرة والثبات بالرجاء من الله ، وهو في سن المئة من اور الكلدانيين الى حاران الى بلاد كنعان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
1-الكتاب المقدس سفر التكوين
2-روث مور ترجمة اسماعيل حقي " الأرض التي نعيش عليها 1961
3-نورمان بريل ، ترجمة اسماعيل حقي " بزوغ العقل البشري" 1964 ص 227
4-الأب فرنسيس يوسف المخلصي بالتعاون مع الأب يوحنان جولاغ ـ العهد القديم ـ تعليقات لاهوتية .ص37
5-عباس محمود العقاد " ابراهيم ابو الأنبياء " ص283
6- ف . جوردن تشايلد ، ترجمة لطفي فطيم " التطور الأجتماعي . 1966
7 - د . فاضل عبد الواحد علي " من الواح سومر الى التوراة ص 325
8-د . فوزي رشيد " ابي سين آخر ملوك اور الثالثة سنة 1990 بغداد
9-د . محمود رياض الأنسان ـ دراسة في النوع والحضارة 1974

ملاحظة : ان هذا المقال نشر في العدد الخاص [ 103 – 104 ] لمجلة بين النهرين سنة 1998 م